صحافة

فلسطين باقية وإسرائيل أيضًا.. تلك هي المشكلة

جمال عبدالجواد

المشاركة
فلسطين باقية وإسرائيل أيضًا.. تلك هي المشكلة

الشعب الفلسطيني لن يختفي، والقضية الفلسطينية لن تنسى، والفلسطينيون ومن ورائهم العرب والمسلمون ومحبو الحرية في العالم سيواصلون المطالبة بحل عادل لهذه القضية. هذا هو ما أثبتته خمسة وسبعون عاما من اللجوء والاحتلال، وهو نفس ما أكدته الحرب الجارية الآن. لكن كيف ومتى سيتمكن الفلسطينيون من حقوقهم فهذا سؤال لا يستطيع أحد الإجابة عنه. صعوبة القضية الفلسطينية تكمن في أنه بينما سيبقى الفلسطينيون وقضيتهم موجودين، فإن إسرائيل أيضا ستظل موجودة. هذه ليست أمنية ولا نبوءة، ولكنها قراءة في الوقائع المتراكمة منذ بدأ الصراع على فلسطين قبل أكثر من مائة عام. 

الحرب الراهنة في فلسطين هي نتيجة لأن من يرون الأمور بطريقة تشبه الطريقة التي أراها بها، أي من يرون أن فلسطين وإسرائيل باقيتان، هم أقلية، فيما يرى كثيرون على جانبي الصراع بإمكانية زوال الطرف الآخر. يسيطر أصحاب هذا الرأي على مواقع صنع القرار في إسرائيل وقطاع غزة، وما الجولة الراهنة من الصراع سوى محاولة من جانب كل طرف لإلغاء الطرف الآخر وإزالته. إسرائيل ترى أن إزالة حماس وغزة ممكنة الآن، فيما حماس تؤمن بأنها ستنجح في إزالة إسرائيل في نهاية المطاف، وما عليها إلا التحلي بالصبر وتحمل المعاناة.

الحرب الراهنة في غزة هي حرب بين أكثر قوى التطرف على الجانبين؛ قتلة السادات وقتلة رابين: الإخوان المسلمين والمتعصبين الصهاينة واليهود. إنها نفس قوى التطرف التى تولت اغتيال القادة الذين تجرأوا على خوض مغامرة السلام، المغامرة الوحيدة التي كان يمكن لها أن تجنب أهل غزة والمنطقة الواقع البائس الذي نحياه اليوم.

كاد العالم ينسى القضية الفلسطينية تماما، لولا السابع من أكتوبر. فهل نلوم حماس لأنها أطلقت كل الشر الكامن في اليمين الصهيوني، أم نوجه لها الشكر لأنها كشفت حقيقة إسرائيل؟

مهمتنا هي الحفاظ على التشدد الفلسطيني... أغلب الفلسطينيين قد يرضون بالسلام عبر قبول اتفاق يبرر لهم الانصراف لشؤونهم الخاصة، أما مهمتنا فهي إبقاء الفلسطينيين غاضبين. هذا هو ما قاله صالح العاروري، القيادي الحمساوي الذي اغتالته إسرائيل في بيروت في 2 يناير 2024، في حديث أدلى به لمراسلة التايمز البريطانية في مارس 2007، عقب الإفراج عنه من السجون الإسرائيلية بعد 15 عاما قضاها في السجن. سألته الصحفية ما إذا كان يمكن لحماس أن تقبل بوجود إسرائيل، فرفض تماما، قائلا إن حماس ملتزمة بالقضاء على إسرائيل، وأنها ستنتصر في النهاية، لأن حماس تخطط لألف عام تالية.

حماس لا تريد إزالة الاحتلال، لكنها تريد إزالة إسرائيل كلها. حماس حريصة على الإبقاء على الغصب الفلسطيني متوهجا، أما أهم وسائل حماس للإبقاء على الغضب الفلسطيني فتتمثل في سياسات الاحتلال الإسرائيلي التي تشعل غضب أكثر الفلسطينيين هدوءا وأقلهم قابلية للاستفزاز. الحلقة جهنمية. اليمين الإسرائيلي يريد إبقاء الفلسطينيين غاضبين لتبرير قبضته الحديدية ورفض المرونة، والمتشددون الفلسطينيون يفضلون اليمين الإسرائيلي لأنه يسهل مهمتهم في الإبقاء على الغضب الفلسطيني.

اليهود أشرار يريدون الاستيلاء على كل فلسطين لأنفسهم وطرد الفلسطينيين منها. الفلسطينيون أشرار يكرهون اليهود ويريدون القضاء عليهم. هكذا يرى المتطرفون على الجانبين الطرف الآخر، وهذا هو رأيهم في حقيقة وجوهر الطرف الآخر. في رأى هؤلاء فإن الكراهية والرفض والرغبة في الإلغاء التام هي حقيقة مؤكدة، وأن دعاوى التعايش والسلام، واقتسام الأرض، وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، ليست إلا تمويها على الحقيقة وخداعا لا يصدقه إلا السذج والبسطاء، وهو طريق محفوف بالمخاطر لأنه يمنح الأعداء فسحة من الوقت للاستعداد للجولة التالية، بينما يعتلينا صدأ الاسترخاء تحت دعاوى السلام والعيش المشترك. في رأى المتطرفين في الجانبين فإن العنف الذي يرتكبه كل منهم ضد الطرف الآخر ليس هو السبب في إشعال التشدد والكراهية والرفض، ولكنه فقط يكشف حقيقة جوهر العدو التي يحاول إخفاءها وراء الحديث عن السلام والتعايش.

السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو شيء شديد الصعوبة، وتحقيقه يحتاج إلى شروط خاصة جدا قد لا تتوافر إلا مرة كل مائة عام، عندما تنفتح نافذة ضيقة جدا في ظروف دولية وإقليمية خاصة، لا تبقى مفتوحة سوى لفترة قصيرة، فإن لم يعبر الشرق الأوسط منها بسرعة انغلقت بشكل تام. هذا هو ما حدث في تسعينيات القرن الماضي عندما تم توقيع اتفاق أوسلو ودخل الفلسطينيون والإسرائيليون في مفاوضات للحل النهائي. إنه نفس الوقت الذي جن فيه جنون اليمين والمتشددين في الجانبين، فقام اليمين الإسرائيلي باغتيال رئيس حزب العمل الذي وقع الاتفاق مع ياسر عرفات، وقامت حماس بتنفيذ هجمات انتحارية قتلت العشرات من المدنيين الإسرائيليين في مدن إسرائيلية عدة، فأضعفت موقف أنصار السلام في إسرائيل، وأتاحت الفرصة لصعود نتنياهو وأمثاله.

لقد أصبح الشرق الأوسط رهينة لرغبات المتطرفين على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، فهل يمكن التحرر من هذه القبضة والخروج من هذه الحلقة الجهنمية؟ وهل يمكن إضعاف موقف المتطرفين على الجانبين، وصعود قوى وسطية معتدلة تؤمن بالتعايش والسلام؟.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن