لم يعرف العالم منذ نحو 30 سنة عالما أكثر تشتُّتا وضياعا ونهما للقوة وغلبة للمال والسلاح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على الرغم من كل الحروب التي خاضها الغرب العالمي وأمريكا على رأسه في العالم، منذئذ، في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وفي قلب أوروبا الشرقية وفي الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بشكل خاص.
أرقام البحوث تشير إلى أن أكبر عدد من القتلى بعد الحرب العالمية الثانية، هم من العرب والمسلمين رغم تعدُّد القتلى من بين كل الجنسيات والقوميات والقارات.
العالم، ومنذ بداية التسعينيات، وتحديدا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي كان يمثل القوة في مجلس الأمن التي توازي رفقة الصين، على خلافاتهما الإيديولوجية وتنافس داخلي بين “الماوية” و”الستالينية”، ظل الاتحاد السوفيتي قوة وازنة في العالم وبالذات في مجلس الأمن أمام الثالوث: أمريكا وبريطانيا وفرنسا.
“الفيتو” وقتها لم يمنع من تفاهمات إستراتيجية وتقاسم للأدوار والمصالح بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، لكن اليوم، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وإعلان الولايات المتحدة نفسها “المنتصر”، رغم أن التفاهمات بين القيادتين السوفيتية والأمريكية وقتها كانت تتحدث عن تسوية بصيغة “لا غالب ولا مغلوب”، إلا أنّ بوش الأب، أصر على تمريغ وجه غورباتشوف في التراب، بأن أعلن انتصار أمريكا في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفيتي. هذا ما مثّل إعلان بداية حقبة جديدة، حقبة الأحادية القطبية، إذ لا أحد يعلو فوق صوت أمريكا، ولا يعادلها ولا يوازيها ولا توازنها قوة عالمية، حتى داخل مجلس الأمن. مجلس الأمن الذي كان تشكيل المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وصناعتهم، أباحوا لأنفسهم حق “الفيتو”، مع العلم أن هذا القانون غير ديمقراطي بالمرة، لكنه بسبب ظروف الحرب والنشأة والتأسيس، بقي إلى اليوم حجر عثرة في التسويات الدولية داخل المجلس بين القوتين المتبقيتين على ضعفهما منذ ثلاثين سنة خلت.
اليوم، أشياء كثيرة تغيَّرت، وروسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي في عهد غورباتشوف ولا يلتسن، والصين اليوم ليست صين ماو تسي تونغ التنين النائم: روسيا تعود بقوة أكبر اقتصاديا وتجاريا وماليا وعسكريا، فيما يستفيق التنين الصيني ليكون القوة الاقتصادية العظمى خلال سنوات: الوضع تغير كليا، مع ذلك، لا يزال “الفيتو” يعمل ولا يزال المجلس يأخذ القرارات كما لو أن المسدس موضوع فوق الطاولة، كما كان يقوم به بعض قادة الدول العسكرية الشمولية المسمّاة ديكتاتورية.
اليوم، والعالم يتجه نحو “الديمقراطية” المزعومة، ما دور “الفيتو”؟ وما وظيفة مجلس الأمن إذا لم يكن ديمقراطيا في اتخذ قراراته الموسّعة بالإجماع وليس حتى بالحسم النسبي؟ ما يمنع من توسيع عضوية المجلس لتشمل القارات والشعوب التي عانت من الهيمنة والاحتلال طويلا، وسماع صوت المستضعفين في العالم من داخل هذا المجلس الذي صار ساحة حرب بين قوتين، الأقوى فيها اليوم يستعمل “الفيتو” كيفما اتَّفق ومتى بدا لها أن مصالحها وحدها مهدَّدة أو لا تستفيد من القرار. معظم الأيادي المرفوعة في المجلس من أجل فرض حق “الفيتو”، كانت على مرِّ التاريخ أياد أمريكية ولم يستعمل الاتحاد السوفيتي أو روسيا “الفيتو” إلا مرات قليلة قياسا بأمريكا.
ما حدث مؤخرا في التصويت الثالث ضد وقف إطلاق النار في غزة، والذي تقدّمت به الجزائر، يمثل أكبر عار على مجلس الأمن وعلى النظام العالمي الذي صار يحمي الحرب ويغذيها ويسعى إليها عوض الأمن والسلم العالمي متجاوزا الجمعية العامة والعالم، بل ومعلنا حروبا من خارجه، خارج الإجماع الدولي: ألا يقال إن “حاميها حراميها”؟.
("الشروق") الجزائرية