انتـهاكاتُـها الصّارخـة للقانون الـدّوليّ - المـوثَّـقـةُ من قـبل الأمم المتّـحدة ومنظّـماتها كما من المنـظّمات الـدّوليّـة غير الحكوميّـة - غزيرةٌ لا تُحصى: من احـتلالٍ بالقـوّة غيرِ مشروع للأراضي الفـلسطينـيّـة والعربيّـة، ومصادرةِ الأراضي والاستيـطانِ فيها، واعـتـقالِ عشـرات الآلاف من الفـلسطينـيّـين والزّجِّ بهم في السّـجون لعشرات السّـنين، إلى تهـويد القـدس وتغـييرِ معالمها الـدّينـيّة والتّاريخيّـة الإسلاميّـة والمسيحيّـة، وحصارِ الشّـعب الفـلسطينـيّ في غيـتو خانق مع تدميـر شروط الحياة في مناطق حصاره، فضلًا عن الرّفـض القاطع لتطبيق القرارات الـدّوليّـة التي تُـنصفـه في البعض القليل من حـقوقه (عودة اللاجئيـن والنّازحيـن إلى ديارهم، وقـف الاستيطان وتفكيك المستوطنات القائمة على الأراضي المحتلّة، وقـف سياسات القـتـل الجماعيّ...).
كيف لدولة نوويّة مدعومة دعمًا عسكريًا لا محدودًا أن تجد نفسها في حاجة إلى "الدفاع عن النّفس" في وجه شعب أعزل؟
غير أنّ أعلى صـوَرِ تلك الانتهاكات فظاعـةً وأكـثرها بشاعةً تلك التي يجسّدها فـعْـلُ القـتـل الجماعيّ للمدنـيّين في الأراضي المحتـلّـة، وخاصّـةً في غـزّة: خلال حروبها الخمسة عليها في السّـنوات السّـتّ عشرة الأخيرة؛ وهو قـتْـلٌ بلغ ذراه في هـذه الحرب القـذرة التي ارتكب فيها جيش الاحتلال أضخـم جريمـة في عُـرف القانون الـدّوليّ: جريمـة الإبـادة الجماعيّـة التي تنـظُـر فيها محكمة العـدل الـدّوليّـة.
ولقد اعـتادت إسرائيل - واعـتاد معها حُـماتُـها الـدّوليّـون خاصّـةً الولايات المتّحدة الأمريكيّـة وبريطانيا - الردّ على الاحتجاجات الـدّوليّة على انـتهاكاتها السّافـرة للقانون الـدّوليّ بالتّـذرّع بالقانون الـدّوليّ نـفسِـه للقـول بأنّها لا تـفعل في حروبها سوى ممارسة "حـقّ الدّفاع عن النّـفـس"! ولقد كانت أُزعـومةُ "الـدّفاع عـن النّـفـس" هـذه مـزحةً ممجوجة لا مكان لها في حساب الواقع والحـقيقة، ولا من عـاقـلٍ في الكـرة الأرضيّـة يملك أن يصـدّقها؛ إذ كيف لدولـةٍ مُـسَرْبَـلةٍ بالسّـلاح ونـوويّـةٍ ومـدعـومةٍ، فـوق ذلك، من دول الغـرب كـافّـة دعمـًا عسـكريًّا لا محـدودًا أن تجـد نفسـها في حاجة إلى "الـدّفـاع عـن النّـفس" في وجـه شعبٍ أعـزل لا يملك من السّـلاح والقـوّة غير حقّـه في أرضـه وكـرامته؟ ولقد تَرجمتْ هذه المفارقة نفسَـها في قـراراتٍ دوليّـة كثيرة صدرتْ عن مجلس الأمن تُـنـبِّـه هذا الكيان (طبعًا لا تُـديـنُه وأنّى لها أن تـفعل ذلك) إلى وجـوب عـدم اللّجـوء إلى "الاستخـدام المُـفْرِط" للقـوّة. ومع أنّ هذا الاستدراك الـدّوليّ المحتـشم على أفعال القـوّة الخـرقاء، الـدّاعي إلى التّخـفيف من كـثافتها، لا يجادل دولةَ الاحتلال وجيشَها في أمـر "حـقّ الـدّفاع عـن الـنّـفس"، إلاّ أنّ مجـرّد تشديده على وجـوب عـدم الإفـراط في قـوّة النّـار يقوم دليلًا على أنّ حروبها وعمليّـاتها العسكريّـة الموسّـعة تخالِـف قـواعد الحروب، ولا تبدو متـكافـئةً مع الخطر الذي تـدّعـي أنّها تدافع عـن نفسـها منـه.
سلوك اللّامبالاة تجاه دماء الشعب الفلسطيني يشجّع دولة الاحتلال على ارتكاب المزيد من المجازر والجرائم
ما من شكٍّ في أنّ أكبر انتـهاكٍ للقانون الـدّوليّ والقانون الـدّوليّ الإنسانيّ هو الاحتلال في حـدِّ ذاته، وفي أنّ السّـكوت عنه وعـدمَ رفْـعِـه - من طرف النّـظام الـدّوليّ - مشاركـةٌ ماديّـة في اقـتراف تلك الانتهاكـات، بل فضيحـة لِـمن وضعـوا ذلك القانون الـدّوليّ ولمن يتعـهّـدونه بالرّعاية والحماية! وهذا يعني، في جملة ما يعني، أنّ سلوك اللّامبالاة تجاه دمـاء الشّعب الفـلسطينـيّ وآلامه وحقوقه المسروقة والمصَادَرة - وهو سلوكُ الـدّول الكبرى في النّـظام الـدّوليّ - هو ما يشجّـع دولة الاحتلال على ارتكاب المـزيد من المجازر والجـرائم من غير مبالاةٍ بأيّ قـانون دولـيّ أو إنسانيّ!
الأغـرب من كـلّ غرابة في هذا كـلّه أنّ قـادة الكيان - العسكريّـين والسّياسيّـين على السّـواء - لا يتـوقّـفون عن القـول إنّ جيشهم هو "الجيـش الأكـثر أخلاقـيّـة في العالم"، وفي ظنّـهم أنّهم بهذا التّصعيد في المزايـدات اللّفـظيّـة يردّون على من يتّـهمهم، بألـفِ قريـنةٍ ودليل، بارتكـاب جريمة الإبادة الجماعيّـة: التي تـنظـر فيها محكمـة العـدل الـدّوليّـة. إذْ مَـن ذا الذي يملك، في العالم، هذا القـدر الخرافيّ من الغباء والغَــفْـلة كي يُصـدّق هذه "الأخلاقـيّـة" التي تصنع شلّالات الـدّم!
(خاص "عروبة 22")