صحافة

أوهام نتنياهو .. احتلال أبدي وحرب بلا نهاية

حسن أبو طالب

المشاركة
أوهام نتنياهو .. احتلال أبدي وحرب بلا نهاية

من المعروف أن رئيس حكومة الحرب والقتل الإسرائيلية يتميز بقدرة خاصة على تدبير المناورات حتى ضد مؤيديه، والتنصل من العهود، والتلاعب بالحقائق، وممارسة الكذب العلني دون خجل، وهي سمات تدفع صاحبها إلى مزيد من الخيالات الطائشة والأوهام الكبرى البعيدة عن الواقع. من بين تلك الأوهام ما طرحه من مبادئ تتعلق بما سماه اليوم التالي لغزة، أي ما بعد توقف آلة القتل في قطاع غزة، والتي تتمحور حول أمر واحد، وهو ببساطة إعادة احتلال القطاع وفرض حكم عسكري إسرائيلي مباشر، والاستعانة بعناصر محلية ذات مواصفات إسرائيلية لتدير بعض شؤون الأهالي في مناطق محددة في القطاع، ويخضعون لإرادة حاكم عسكري إسرائيلي فعلي وإن لم يعلن عنه صراحة.

وتمتد تلك الأوهام إلى السيطرة على الحدود الفلسطينية الجنوبية للقطاع مع مصر بزعم منع تهريب الأسلحة وبالتعاون مع الولايات المتحدة. والأنكى من كل ذلك ما يتوهمه بالقضاء التام على قدرات حماس وفصائل المقاومة الاخرى، وتجريد القطاع تماما من الأسلحة مسبقا، قبل ما يعتبره السماح بأي عمليات إعادة إعمار في القطاع تقوم بها دول مقبولة لدى إسرائيل. وكثير من هذه الاوهام تم التعبير عنها في فترات سابقة، والجديد هنا أنها جُمعت معا في وثيقة بغرض أن تنال قوة ومكانة سياسية وقانونية في حال قبلتها حكومة الحرب وأيدها الكنيست، كامتداد لموقف الكنيست الرافض تماما مبدأ قيام دولة فلسطينية. ومن قبيل المناورة المكشوفة تم الإعلان عن الوثيقة في اليوم الذي ذهب فيه وفد إسرائيلي إلى باريس للتفاوض على هدنة محدودة وتبادل جزئي لإطلاق الأسرى من الطرفين.

خلاصة تلك الأوهام تدور حول فكرتين، إعادة احتلال القطاع إلى أجل غير مسمى وفصله تماما عن الضفة الغربية، والقضاء التام على احتمال قيام دولة فلسطينية في المدى المنظور وربما إلى الأبد. الفكرتان تؤسسان من الناحية العملية لحالة حرب لا أفق زمني لها، أحد أبعادها حرب ضد الحقوق الفلسطينية المشروعة مستندة إلى تغول الاستيطان في الاراضى الفلسطينية المحتلة، وحرب ضد الفلسطينيين أنفسهم كبشر والسعى الدؤوب لاقتلاعهم من أراضيهم، وحرب ضد العالم بأسره الرافض للعنجهية الإسرائيلية وممارساتها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان في كل الأراضي المحتلة، وأخيرا حرب ضد مؤسسات النظام الدولي وقوانينه ومبادئه التي تضع حق الشعوب في تقرير مصيرها كإحدى أولويات وضرورات الأمن والسلام العالمي.

في سياق تلك الأوهام وعلى سبيل العنجهية، يحدد صاحبها مسؤوليات والتزامات بشروط إسرائيلية لأطراف أخرى، وكأنها بلا إرادة، إذ يحدد من سيقوم بالإعمار في ظل الاحتلال وبشروطه، كما يحدد أدوارا لدول يعتبرها ذات خبرة في مواجهة التطرف لكي تتولى ما يتوهمه اجتثاث التطرف في المؤسسات التعليمية الفلسطينية في القطاع والضفة. وتمتد الأوهام إلى استمرار السيطرة الأمنية على كل شرق الضفة. والوهم الأكبر يتعلق بتجريد كل فصائل المقاومة من سلاحها وقدراتها على الحركة في محيطها الفلسطيني، في الوقت ذاته يبشر الفلسطينيين بتجريدهم من كل أسس الحياة ويتصور أنهم سيقبلون الانصياع والخضوع الأبدي لعنصرية تسلبهم إنسانيتهم بلا أدنى مقاومة.

منبع تلك الأوهام سياسيا وأيديولوجيا يكمن داخليا في حالة التطرف اليميني للغالبية الساحقة للمجتمع الإسرائيلي الصهيوني، والتي تدعم تلك الأوهام وتؤمن بأنها السبيل الوحيد لبقاء دولتهم غير قابلة للزوال، بل قابلة للتوسع والامتداد الجغرافي في اتجاهات عدة. أما خارجيا فبالرغم من مساحات الخلاف العلني المحدودة مع الإدارة الأمريكية الحالية بشأن مصير حل الدولتين، وعدم اجتياح رفح، ورفض احتلال القطاع، والتوقف عن الاستيطان، ومعارضة الممارسات العنيفة للمستوطنين في الضفة الغربية، فثمة حالة من الثقة لدى نخبة الحرب الإسرائيلية ورئيسها، أن الولايات المتحدة تجاهر بهذه المواقف لأغراض دعائية بحتة وإرضاء ظاهريا للعرب، وألا سبيل أمام الرئيس بايدن لممارسة أي ضغوط حقيقية على إسرائيل تثنيها عن التشبث بأوهامها الأبدية.

والواضح أن العزوف الأمريكي عن ممارسة أي ضغوط فعلية والاكتفاء بالتصريحات المراوغة والمتناقضة أحيانا، في الوقت الذي تقر فيه إرسال المزيد من الأسلحة والصواريخ لجيش الاحتلال، يجر معه عزوفا أوروبيا وغربيا عن معارضة الأطماع الإسرائيلية، في الوقت ذاته تختفي تماما أي قدرة من الشرق أو الجنوب، بما في ذلك روسيا والصين، لممارسة أي ضغوط عملية لإجهاض تلك الأوهام. وهي حالة دولية غريبة، إذ تقف دولة صغيرة حجما وتعيش على دعم استثنائي أمريكي وغربي غير مسبوق في التاريخ، وفي الآن نفسه لا تراعي الحد الأدنى من مصالح تلك الدول، أو دعواتهم لمراعاة الحد الأدنى من الجوانب الإنسانية للفلسطينيين.

هذه الحالة المثيرة دوليا وتاريخيا، تضع مسؤولية أكبر على أصحاب القضية؛ الفلسطينيين والعرب والمسلمين جميعا، لوضع تلك الأوهام في حجمها الحقيقي كأضغاث أحلام ليس لديها أي فرصة لكي تصبح واقعا مقبولا. والأمر لا يتعلق بمواقف رافضة رغم أهميتها، ولا توجيه انتقادات قانونية وإنسانية وحسب، بل بمواقف عملية وتحركات وتنسيق والتزامات محددة، وبرنامج عمل تبدأ خطواته فلسطينيا بمصالحة كبرى بين كل الفصائل والتمسك بحق المقاومة بكل أشكالها، ودعم كل صور الصمود والبقاء على أرض فلسطين، مشفوعة باستراتيجية عربية إسلامية تقدم كل صنوف الدعم والمساندة لهذا الصمود الفلسطيني، والإصرار على أن المدخل الوحيد لاستقرار الإقليم ككل هو الدولة الفلسطينية، وعدم تقديم أي تنازلات تحت أي مسمى يدعم الاحتلال والاستيطان. وتلك خطوات لا غنى عنها، ولا بديل لها.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن