الأمم في الحروب كالأفراد منها الذي يتمسك بمبادئ الرجولة والشجاعة ويقاتل بشرف عندما يكتب عليه القتال وعندما يتم الاعتداء عليه، ومنها الذي يبني وجوده كله على التآمر والخداع، ومنها الذي لا يؤذي النساء والأطفال والأشجار، ومنها الذي يجلب المرتزقة لقتلهم وتشويههم.
المفارقة الكبرى أن الجيش الإسرائيلي استطاع خداع العالم منذ النشأة الأولى له بأنه أعظم الجيوش أخلاقا، وأنه دائما يلتزم بالمبادئ الأخلاقية في قتاله مع أعدائه بخلاف جيوش المنطقة والعالم. هو الأمر الذي تردده إسرائيل والميديا الغربية لتقنع به بقية البشرية.
في حقيقة الأمر هذا وصف مخالف للواقع لأنه هو الجيش الذي هدم في غزة جميع مساجدها وكثيرا من كنائسها الأثرية، ودمر جميع جامعاتها وأحرق كل ما تحتويه من كتب ووثائق ليمحو ذاكرة الشعب الفلسطيني ويلغي تاريخه، وهو الجيش الذي دمر كل المستشفيات في غزة، وهو الجيش الذي يستهدف الأطفال والنساء وليتسبب في بتر أعضائهم، وهو الجيش الذي يقبض على الشباب والأطفال الفلسطينيين ليعذبهم ويودعهم سجونه بتلفيق التهم لهم، وهو الجيش الذي يعتمد على المرتزقة منذ 1948، ليقاتلوا باسمه وتحت رايته.
لعب المرتزقة الدور الأهم في وجود إسرائيل منذ البداية، ففي الحرب الأولى من الصراع العربي الإسرائيلي عام 1948، لعبوا دورا خطيرا لولاه لقضي على الجيش الإسرائيلي في المهد. هناك فيلم تسجيلي ضمن سلسلة تسمى «تاريخ منسي عن المرتزقة الأوائل» بعنوان: «الطيارون المرتزقة لإسرائيل» يروى أنه عندما بدأت تلك الحرب لم يكن لإسرائيل سلاح جوي وأنه تم تأسيسه في نفس العام مع بداية الحرب، وكانت مصر تملك حينها 30 طائرة بدائية وسوريا 50 طائرة بدائية أيضا، أما الطيران الإسرائيلي فقد تم تكوينه على غرار سلاح الطيران البريطاني بواسطة ديفيد بن جوريون من خلال المساعدات الكبيرة الداعمة له من بريطانيا التي كانت تؤدي نفس الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية الآن من الدعم الظاهر والباطن والمستدام لإسرائيل وضمان تفوقها وضمان تحقيق الأجندة الاستعمارية.
كانت هناك المؤسسات الصهيونية الغنية ورجال المال اليهود الذين يهمهم إنشاء دولة إسرائيل استطاعوا مع ديفيد بن جوريون بأموالهم استقطاب 205 طيارين أو مساعدين لهم من الجيوش الأوروبية والذين اشتركوا في الحرب العالمية الثانية والذين كانت لديهم الخبرات القتالية الكبيرة المكتسبة إضافة الى الطواقم الأرضية التي كانت تساعدهم وكانت على نفس المستوى، وبالتالي أصبح الجو ملكا لهم، بالمقارنة لم يكن لدى سلاح الطيران العربي والطيارين العرب الخبرات المماثلة، وهو الأمر الذي حسم المعركة في نهاية المطاف.
عندما كانت الدبابات المصرية على أبواب تل أبيب تم إيقافها من خلال ذلك الأسطول الجوي المتفوق كما تروي أحداث ذلك الفيلم التسجيلي. إضافة الى ذلك فإن هؤلاء الطيارين المرتزقة استطاعوا إسقاط غالبية الطائرات العربية البدائية لقلة الخبرة القتالية لدى طياريها ولقلة المساعدة من الطواقم الأرضية الموجهة. لم يقتصر الأمر على المرتزقة في سلاح الطيران ولكن شمل كل الجوانب الأخرى للحرب. يشرح لنا الفريق سعد الدين الشاذلي رحمه الله في حديث مطول في قناة الجزيرة بتاريخ 6 فبراير 1999، أن مجمل القوات العربية التي شاركت في تلك الحرب كانت في حدود 40 ألف مقاتل وأنها لم تكن قوات مستعدة للحرب، وكانت غير مدربة للقتال ولم يكن لها جاهزية أو خبرة، وأنها كانت قوات مجهزة في الأساس للأمن الداخلي، وبالمقابل كانت القوات الإسرائيلية ومعها المرتزقة في حدود 100 ألف، وكانوا متفوقين علينا في العدد والعدة وفي التدريب ولم يكن شراء السلاح متاحا حينها.
المقاومة الفلسطينية كشفت كل تلك الادعاءات واستطاعت تعرية ذلك الجيش وكشف زيف التزكية الذاتية لأسطورته، وأنه نمر من ورق. المقاومة تواجه ذلك الجيش ومعه الغرب بكل أسلحته ومصادره المادية من أسلحة متطورة واستخبارات عملاقة وإمدادات مستدامة ومعونات اقتصادية بغير حدود تفوق في دورها دور الأسلحة، فهي التي تمول جيوش المرتزقة التي كشفت عنها المقاومة وكشف عنها بعض المرتزقة أنفسهم. طبقا لمقابلة مع أحد المرتزقة الإسبان يدعى بدرو دياز نشرتها صحيفة إلموندو الإسبانية بتاريخ 3 نوفمبر 2023، عندما سئل عن السبب الذي دفعه للقتال مع الجيش الإسرائيلي ضمن المرتزقة الذين يحاربون مع الجيش الإسرائيلي، فأجاب بأنه يوجد الكثير من المرتزقة الذين التحقوا بالجيش الإسرائيلي الذي يدفع لهم مبالغ كبيرة، وإني على سبيل المثال أقاتل معهم من أجل المال فهم يدفعون لي 4187 دولارا أسبوعيا، كما أنهم يمدونني بسلاح ممتاز، إضافة أن ذلك ليس بالعمل الشاق ونحن ندعم القوات الإسرائيلية بالاحتياجات الأمنية عند نقاط التفتيش وغيرها، ويوجد أيضا منا الكثير من الشركات العسكرية الخاصة التي تتولى حماية الحدود.
هناك مرتزقة من العديد من الدول منها فرنسا وبريطانيا وأمريكا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وأوكرانيا والهند وبولندا وإثيوبيا وجنوب السودان والسلفادور وهندوراس والأرجنتين وكندا وشمال العراق وتايلاند وغيرها تتقاضى رواتب خيالية تبلغ قرابة عشرين ألف دولار شهريا للمرتزق الواحد تمولها المساعدات الأمريكية والأوروبية وتبرعات الجاليات اليهودية. تدفع إسرائيل بهؤلاء المرتزقة لارتكاب أبشع الجرائم خصوصا قتل الأطفال والنساء، كما تدفع بهم لتقليل خسائرها من الجنود والضباط لأنها لا تذيع أعداد القتلى من المرتزقة. بتاريخ 21 يناير الماضي تقدم بعض النشطاء الفرنسيين بطلب بمحاكمة 4185 مرتزقا فرنسيا يقاتل مع الجيش الإسرائيلي طبقا لما ينص عليه القانون الفرنسي والذي يمنع ذلك.
إنه ليس جيش أخلاق ذلك الذي يطلق النار على عجوز وحفيد يرفعان الراية البيضاء، وليس جيش أخلاق من يعدم طفلا فلسطينيا بتاريخ 29 يناير الماضي.
("الأهرام") المصرية