نتنياهو حاول خلال الفترة الماضية دفع فصائل المقاومة في قطاع غزّة نحو تقديم تنازلات والقبول بتصوّر يقضي بوقف مؤقت لإطلاق النار مقابل الحصول على الأسرى الإسرائيليين، وذلك باستخدام سلاح التنكيل بالمدنيين، ومنع دخول المساعدات إلى شمال القطاع حيث يتواجد نحو 700 ألف مواطن يتعرضون لخطر المجاعة، وذلك بعدما فشل خلال الشهور الماضية في إجبار المقاومة عسكريًا على تنفيذ شروطه، وأخفق وفقًا للمعطيات العملياتية في تحقيق ما يسميه "النصر المطلق".
المدقق في المشهد الراهن في إسرائيل، سيجد أنّ حاجة نتنياهو لهدنة مؤقتة، لا تقل عن حاجة مواطني القطاع الذين أنهكتهم الحرب التي خالف فيها جيش الاحتلال كافة القوانين والمواثيق الدولية، ولم يراعِ أيّ أبعاد إنسانية أو أخلاقية.
قبل نحو شهر أعلن نتنياهو أنه سيحقق "النصر المطلق" على حركة "حماس"، وسيقتحم معقلها في خان يونس ويدمّر شبكة أنفاقها ويعتقل قادتها ويحرّر أسراه بالقوة، فيما ذهب وزير دفاعه إلى أنّ "الضغط العسكري" على الحركة وباقي الفصائل المقاومة في خان يونس من شأنه أن يجبر "حماس" على تسليم الأسرى، ورغم استخدام جيش الاحتلال كلّ عتاده وأسلحته خلال تلك الفترة إلا أنّ هدفه لم يتحقق.
ويسعى نتنياهو للوصول لتلك الهدنة وفق شروط يريد فرضها عبر تجويع سكان القطاع، بحيث يتخفف من الضغوط والاحتجاجات التي يمارسها أهالي الأسرى والتي بدأت تتحوّل في مطالبها من الدعوة إلى التوصل لصفقة إلى المطالبة بإسقاط حكومته والذهاب لانتخابات جديدة، وكذلك تفويت الفرصة على منافسيه السياسيين، الذين استطاعوا إضافة نقاط إلى رصيدهم في إطار معركة خلافته عبر ملف صفقة الأسرى وإبدائهم موقفًا داعمًا لموقف أُسر الأسرى، في مقابل خطاب شديد التطرّف من جانب وزراء حكومته الذين وضعوا تلك القضية في آخر سلّم اهتماماتهم.
يضاف إلى ذلك، أنّ نتنياهو يسعى إلى تجنّب خسارة داعميه الأوروبيين، الذين أبدو موقفًا رافضًا لاجتياح رفح المكدّسة بنحو مليون وأربعمائة ألف نازح من المدنيين معلنين عن اتجاههم اتخاذ خطوات لتخفيض الدعم المطلق الذي منحوه لتل أبيب منذ بدء العدوان، فضلًا عن أنّ شركاءه الأمريكيين يرغبون في وقف القتال خلال شهر رمضان إدراكًا من جانبهم لتداعيات استمرار العمليات العسكرية سواء في غزّة أو في الضفة الغربية على المنطقة بالكامل، خاصة مع اقتراب الانتخابات الأمريكية وسعي الرئيس جو بايدن لتصحيح مسار حملته الانتخابية.
بايدن حذّر من أنّ "إسرائيل تخاطر بفقد دعم بقيّة العالم مع استمرار سقوط قتلى فلسطينيين بأعداد كبيرة"، معلنًا أنّ إسرائيل وافقت على عدم القيام بأنشطة عسكرية خلال رمضان. وعندما سُئل أثناء زيارة إلى نيويورك عن الموعد المحتمل لبدء وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، أجاب: "مستشارو الأمن القومي يقولون لي إننا قريبون.. نحن قريبون.. ولم ننته بعد. وآمل أنه بحلول الاثنين المقبل (4 مارس/آذار) سيكون هناك وقف لإطلاق النار". وأضاف: "رمضان يقترب، وكان هناك اتفاق بين الإسرائيليين على عدم القيام بأي أنشطة خلال شهر رمضان، لكي نمنح أنفسنا وقتًا لإخراج جميع الرهائن".
جاءت تصريحات بايدن قبل يوم واحد من الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في ولاية ميشيغن، في ظل تهديد عدد كبير من الناخبين العرب والمسلمين بالولاية بمعاقبة الرئيس (الذي يسعى إلى الحصول على تأييد الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية) على موقفه من الحرب على غزّة ودعمه المتواصل لإسرائيل. ويتجاوز عدد الجالية العربية في ميشيغن الـ300 ألف نسمة، وتعد هذه الولاية من الولايات المتأرجحة التي تشكل أهمية كبرى في سباق الانتخابات، ويؤثر الفوز بها على فرص الفوز بانتخابات الرئاسة.
لكن في المقابل يبدو أنّ حديث بايدن المتفائل بالتوصل لاتفاق قبل الاثنين المقبل، ليس له ما يدعمه على طاولة المفاوضات أو أرض الواقع، إذ قال مصدر إسرائيلي لشبكة "ABC News" إنّ نتنياهو "فوجئ" بتصريحات بايدن حول التوصل لوقف لإطلاق النار في غزة "بحلول يوم الاثنين المقبل"، وهو أيضًا المضمون نفسه الذي أكدت عليه مصادر سياسية إسرائيلية لصحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية، بالقول إنها لا تعرف "ما هو أساس تفاؤل بايدن بقرب وقف إطلاق النار".
ولم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لمعسكر المقاومة، إذ أكد إحسان عطايا، عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي، إنّ موقف حركته يتجه إلى عدم الموافقة على الورقة التي تدور بشأنها المفاوضات، معتبرًا أنّ التسريبات العبرية المعبّرة عن قرب التوصل لاتفاق هدفها الضغط على المقاومة وتأليب المواطنين عليها.
"المسافات لا تزال بعيدة"
يأتي هذا فيما أكدت مصادر مطلعة على المفاوضات، إن المباحثات التي وُصفت بـ"الشاقة" لا تزال جارية ولا يمكن الجزم بأنّ هناك موعدًا محددًا للوصول إلى اتفاق، كما أشار الرئيس الأمريكي، لافتةً إلى أنّ التفاصيل يوجد بشأنها خلافات كثيرة جدًا.
وأوضحت مصادر بالمقاومة الفلسطينية، أنهم أُبلغوا من جانب الوسطاء موافقة حكومة إسرائيل على مجموعة من النقاط فيما يُعرف بـ"الإطار العام"، وبناءً عليه تمّت دعوة "حماس" والمقاومة، لتحديد مطالبها خلال مفاوضات تفصيلية.
وأشارت المصادر المتابعة لسير المفاوضات في باريس والدوحة والقاهرة إلى أنّ إسرائيل ترواغ بشأن تفاصيل أعلنت موافقتها عليها في اجتماع العاصمة الفرنسية، مؤكدةً أنّ "المسافات لا تزال بعيدة" خلال عملية التفاوض.
كما اعتبرت مصادر فلسطينية أنّ نتنياهو ذهب للمفاوضات وعينه على تحقيق عدد من المكاسب، أهمها كسب مزيد من الوقت أمام الجبهة الداخلية وأُسر الأسرى، وكذلك التهرّب من الضغوط الأمريكية والإيحاء بأنه يتجاوب مع المساعي الرامية للهدنة، كما أنه يسعى إلى تصدير الأزمة للمقاومة بإلقاء الكرة في ملعبها.
وتقول المصادر إنّ الكثير من تفاصيل البنود المطروحة في الاتفاق لا تزال محل خلاف، موضحةً أنه على صعيد ملف المساعدات الإغاثية، فإن هناك خلافات متشعبة بعضها متعلّق بتحديد كمية المساعدات ونوعيّتها، والبعض الآخر متعلّق بأمور لوجستية لا بد من توافرها.
وأوضحت أن المقاومة تشترط تحديد نسبة محددة سلفًا من حجم المساعدات اليومية التي سيتم التوافق على دخولها إلى مناطق شمال القطاع التي تعاني من مجاعة، كاشفةً أنّ هناك مطالب بأن لا يقل عدد شاحنات المساعدات المخصصة للشمال عن 150 شاحنة يوميًا.
المساعدات والعودة إلى شمال القطاع
كما كشفت أنّ المقاومة تتمسك أيضًا بضرورة فتح إسرائيل معابر إضافية مع قطاع غزّة أمام المساعدات والشاحنات التجارية خلال فترة الاتفاق، في ظل عدم قدرة معبري رفح وكرم أبو سالم على استيعاب وتمرير عدد الشاحنات المطلوب تمريرها للقطاع يوميًا والتي ستُقدر بـ500 شاحنة، غير أنّ إسرائيل لا تزال تماطل بشأن مساعدات شمال غزّة، وترفض تحديد مسارات واضحة ومتفق عليها لوصول المساعدات يوميًا للشمال.
وإضافة إلى المساعدات، لا يزال هناك خلاف واضح بشأن عودة المواطنين لمناطق شمال غزّة بدون قيود، إذ "أبدت إسرائيل موافقة خلال اجتماع باريس الثاني بشأن هذا الملف، ثم عادت لتعقّد الموقف برفضها عودة الأُسر كاملةً للنقاط التي ستسمح بها في شمال القطاع حال تم التوصل لاتفاق"، يقول مصدر، لافتًا إلى أنّ "حماس" تتمسك في المقابل بعودة الأسرة كاملة، فيما تقول إسرائيل إنها لن تسمح سوى للنساء والأطفال وكبار السن بالعودة.
وتتمسك "حماس" أيضًا بدخول منازل جاهزة "كرفانات" بلا قيود خلال فترة الاتفاق، وبينما أبدت إسرائيل موافقة في بادئ الأمر على ذلك، إلا أنها عادت وماطلت بشأن الاتفاق على أعداد تلك المنازل المسموح بدخولها وكذلك المناطق المسموح بنشرها فيها، كما ماطلت بشأن إقرار البند المتعلّق بدخول المعدات الثقيلة اللازمة لرفع الأنقاض وتركيب المنازل الجاهزة، وإعادة تشغيل المستشفيات الكبرى التي اقتحمتها إسرائيل في وقت سابق ودمّرت أجزاء كبيرة منها.
حتى الآن يبدو المشهد ضبابيًا، في ظل سياسة المماطلة التي تنتهجها إسرائيل حيال مطالب المقاومة والمتعلقة في مجموعها بإغاثة أهالي غزّة، وذلك ضمن إطار محاولة نتنياهو تفادي الضغوط الأمريكية والغربية والداخلية، علمًا أنّ التنازلات التي قدّمتها فصائل المقاومة تأتي من كونها محاصرة ليس بقوات الاحتلال ونيرانه بل بأزمة الشعب الفلسطيني الإنسانية من جهة، ومن جهة أخرى بتخاذل دول الجوار العربي التي يقف جلّها موقف المُشاهد وبعضها يتعامل مع هذه الأزمة من منطق دور "الوسيط".
(خاص "عروبة 22")