قد يُحيل الوطن العربي على طموح تراكمي لدلالة القومية التي تغديه نوستالجيا الماضي، كما يعكسه واقع أو راهن الوطن العربي الذي يمرّ من عدة تحديات تخول للبعض الحديث عن الغموض في معرض البحث عن أجوبة دقيقة ومفصلية للائحة من الأسئلة من قبيل: أيّ وطن عربي نتحدث عنه اليوم في مطلع الألفية الثالثة؟ هل هناك إمكانية لتسطير أرضية لاتحاد عربي على غرار الاتحاد الأوروبي مثلًا؟ ألا يعكس المفهوم طموحًا جماهيريًا أكثر منه واقعًا سياسيًا؟ ضمن أسئلة أخرى.
الأفق القومي يعيش اليوم على وقع التهميش من فرط الإكراهات
وقد يُحيل مصطلح القومية على اتفاق علني بوجود هوية مجتمعية يجمعها هَمٌّ مشترك، وحتى إن اختلفت السياقات العربية وأوحت بخصوصية ما تظل تحمل أفقًا انتظاريًا مشتركًا تحت اسم العروبة، هذا الأفق القومي الذي اشتدّ وازدهر إبّان الحركات التحرّرية وبعد فترة الاستقلال، يعيش اليوم على وقع التهميش من فرط الإكراهات. صحيح أنّ لكلّ تجربة سياقها الذي ارتبط بما بعد فترة الاستقلال خصوصًا في ما يهمّ توظيف السياق الحداثي الغربي، وهو السياق الذي أفرز تنوعًا في التجارب العربية القُطْرية، لكنه أبقى بالمقابل الأمل الانتظاري القومي في خلاص مشترك مأمولًا ومرغوبًا.
نُدرج هنا التحولات التي جرت في الحالة المغربية، بحكم الانتماء، إذ ما يتبدّى اليوم في ظل السياق المغربي وما يستوجبه من اختيارات، صعود الطموح الوطني على حساب الحسّ القومي العربي، الهوية الوطنية بكل حيثياتها القائمة على تاريخ المملكة وتعزيز هذا الانتماء، تغذية الحسّ التنوعي لمختلف الثقافات المشكّلة لهذه الهوية، هاجس رسم الحدود الجغرافية، خلق تحالفات خارج التحالفات القومية المعتادة، رسم توجه برجماتي يخدم ويقوي الحسّ الوطني ويهمّش باقي الاختيارات أو يعطّلها إلى حين. قد لا يُمثّل المغرب النموذج الأوحد لهكذا توجّه، بل إنها في الحقيقة بداية لتوجّه عام يعطي الأولوية للهوية الوطنية على باقي الانتماءات والاعتبارات القومية.
القومية العربية لا تُعطّل نماء الدول، لكنها مطالبة بالاستجابة لمطالب المرحلة
عندما نطلق مفاهيم مثل المجتمع العربي، القومية العربية، العروبة، نكون بالأساس أمام معطى ظاهري لكنه يحتاج إلى مزيد تفعيل ميداني على الصعيد العربي، لأنه بزغت تحديات لاحقة بالرغم من وجود إطار قومي وحدوي.
لم يعد التنافس بالضرورة مع المختلِف أو الآخر غير العربي، بل إنّ التنافس والتنابز بالمنجزات والتسابق نحو التسلّح وربط تحالفات مع من كان يومًا عدوًا، صار يطال بعض أعضاء الوحدة ذاتها، انقلبت الطاولة وتغيرت دلالة الأشقاء/ الإخوة بما يتلاءم ومتطلّبات المرحلة، فقد يصير الشقيق منافسًا والعكس وارد وممكن، وواضح أنّ هذا توجه يطرح عدة تحديات على الطموح القومي.
نحن إزاء تغيّر الآمال والآفاق المحدّدة لتوجّهات الدول... وللطموحات المجتمعية
مؤكد أنّ هناك عدّة تحوّلات في معالم الطموح القومي بين الأمس واليوم، أي بين حقبة الحركات التحررية، لأنّ التجربة التاريخية آنذاك كانت تستوجب حسّ الوحدة إزاء عدو مشترك ومتفق عليه، حيث تثار هنا دلالة الوحدة بما هي احتياج وضرورة للتقوية والسند، بناءً على وحدة المنطلقات وتشابه الآمال؛ وبين أداء دولة ما بعد تحقيق الاستقلال، حيث نعاين ما يُشبه إعادة ترتيب طاولة الأولويات لكل دولة من دول الوطن العربي، هذا لا يعني أنّ القومية العربية تُعطل نماء الدول، بل يدلّ على أنها مطالبة بالاستجابة لمطلب المرحلة الذي يهم جلّ الدول العربية. بالمقابل قد يحقق هذا المطلب للدول التي لا زالت تحتاج للوحدة القومية لتحرّر من الاستعمار، الباحثة عن سند انتمائي، والنموذج هنا قائم مع التفاعل العربي القومي الصريح بخصوص الدفاع عن الحق الفلسطيني.
بالإمكان اليوم أن نرسم مطلب القومية توجهًا مختلفًا لما طمحنا إليه سابقًا، لكنه يظلّ مرتبطًا بالأساس بتحقق اكتفاء الذات الوطنية من طموحاتها. نحن إزاء تغيّر الآمال والآفاق المحدّدة لتوجهات الدول، وفي عملية التغيّر هاته تتغيّر بدورها الطموحات المجتمعية.