لا حديث للمحللين وخبراء الاقتصاد، الدوليين قبل المحليين، منذ صباح أمس الأول الأربعاء، إلا عن ارتفاع سعر الدولار في السوق الرسمية، أو البنوك، نتيجة قرارات لجنة السياسة النقدية،التابعة للبنك المركزي المصري، دون التركيز على انخفاضه في السوق الموازية، أو السوداء، بعد وصوله إلى أرقام فلكية أو لا منطقية. وبعضهم توقف عند رفع سعر الفائدة، وخرج منه باستنتاجات ودلالات، توحي باقتراب يوم القيامة. أما المواطن العادي، فلا يعنيه غير توافر السلع الأساسية، بأسعار معقولة ومستقرة، تتناسب مع مستوى دخله، وتجعله قادرًا على امتصاص الصدمات، وابتلاع الأزمات، وانتظار الخروج من عنق الزجاجة، التي دخلناها منذ نصف قرن، وتحاول دولة 30 يونيو إخراجنا منها.
الموضوع، باختصار قد يكون مخلًا، هو أن نقص موارد الدولة من العملات الأجنبية، أو الدولار تحديدًا، أدى إلى ظهور سوق موازية، أو سوداء، لسعر الصرف، وتسبب في تباطؤ النمو الاقتصادي. ومع استمرار تراكم التداعيات الخارجية، الناتجة عن الضغوط التضخمية العالمية، والمتزامنة مع تعرض الاقتصاد العالمي لعدة صدمات متتالية وارتفاع أسعار السلع الأساسية دوليًا، كان طبيعيًا أن ترتفع الأسعار، محليًا، بدرجة مضاعفة، أو لا منطقية، وأن يسجل معدل التضخم العام مستويات قياسية، استوجبت التحول نحو إطار مرن، يسمح بتحديد سعر الصرف وفقًا لآليات السوق، وهذا بالضبط هو ما قررته لجنة السياسة النقدية، في اجتماعها الاستثنائي، الذي عقدته صباح الأربعاء، كما قررت، أيضًا، رفع سعر الفائدة 600 نقطة أساس، لتقييد الأوضاع النقدية، على نحو يتسق مع المسار المستهدف لخفض التضخم.
قرارات اللجنة، كانت متوقعة منذ فترة طويلة، لكنها لم تكن ممكنة، أو شبه مستحيلة، قبل الوفرة الدولارية، التي حققتها صفقة تنمية مدينة «رأس الحكمة»، والصفقات والطروحات الحكومية، غير المسبوقة، التي تمت خلال الأسابيع أو الشهور القليلة الماضية. إضافة إلى ما ستوفره الطروحات، التي كانت معلقة على وجود سعر صرف موحد، والصفقات المرتقبة في قطاع الهيدروجين الأخضر وغيره من القطاعات الواعدة. وكذا، نجاح الدولة، ممثلة في الحكومة والبنك المركزي، في التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ستحصل بموجبه على 8 مليارات دولار من الصندوق، و1.2 مليار دولار من صندوق الاستدامة البيئية، المعني بملف تغير المناخ. ومن المرتقب، أو المتوقع، أيضًا، أن يقوم شركاء التنمية، وعلى رأسهم البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، بتوفير قروض ميسرة، فور توقيع الاتفاق مع صندوق النقد.
نحن، إذن، أمام برنامج متكامل، لتحقيق وفرة دولارية كبيرة، ستُمكن الدولة المصرية من تحقيق الاستقرار النقدي والاستمرار في برنامج الإصلاحات الهيكلية، وإعادة الاقتصاد المصري إلى المسار الإيجابي. غير أن تأثير، أثر، أو انعكاس ذلك كله على أسعار السلع، لن يتضح، على الأرجح، قبل ثلاثة أشهر، يحتاجها التعاقد على الاستيراد بالسعر الجديد للدولار، واستيفاء إجراءات التعاقد والنقل، وصولًا إلى توافر كميات كبيرة من السلع تغطي احتياجات السوق المحلية، وتقضي على الفجوة بين العرض والطلب، التي تسببت في الارتفاع غير المنطقي للأسعار. ويمكنك أن تضيف إلى ذلك أن سعر الصرف المرن سيؤدي إلى تقليل الواردات غير الضرورية، وسيجعل المستثمرين في القطاعين الزراعي والصناعي، وباقي القطاعات، قادرين على تدبير احتياجاتهم من المواد الخام والآلات والمعدات، وبالتالي زيادة إنتاجهم.
المهم، هو أن قرارات لجنة السياسة النقدية جاءت، بحسب البيان الصادر عنها، في إطار حزمة إصلاحات اقتصادية شاملة، بالتنسيق مع الحكومة وبدعم من الشركاء الدوليين الثنائيين ومتعددي الأطراف. ولإدراكها أن هذه القرارات تحتاج إلى وقت حتى ينتقل أثرها إلى الاقتصاد، تعهدت اللجنة بأن تستمر في تقييم توازن المخاطر المحيطة بالتضخم بهدف السيطرة على التوقعات التضخمية، وأكدت أنها لن تتردد في استخدام أدواتها المتاحة، للحفاظ على استقرار الأسعار في المدى المتوسط. كما أكد رئيس الوزراء، خلال ترؤسه اجتماع الحكومة الأسبوعي، استمرار التنسيق مع البنك المركزي، لمراقبة الأسواق، عن كثب، ومعرفة تأثير هذه القرارات فيها، موضحًا أن الحكومة تستهدف، في هذه المرحلة خفض معدلات التضخم، وضبط الدين، ودفع قطاعات الصناعة والزراعة والاتصالات، وزيادة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد، وتوفير فرص العمل، و... و... وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية.
..أخيرًا، ومع تسليمنا بأن التطورات السياسية، الإقليمية والدولية، قد يكون لها تأثيرات أقوى على الأوضاع الاقتصادية، لا يبقى غير الإشارة إلى أن «الوتيرة المتسارعة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وبرامج التخارج من الاستثمارات الحكومية، منذ منتصف 2023، مثّلت تطورًا إيجابيًا من شأنه أن يسهم في تحسين ثقة الأسواق والمستثمرين في الاقتصاد المصري»، بشهادة إيفانا فلادكوفاهولار، رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر، التي أكدت، أيضًا، أن «السلطات المصرية أظهرت التزامًا قويًا وسريعًا بشأن جميع الجوانب الحاسمة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي يدعمه الصندوق»، والذي أكد رئيس مجلس الوزراء أنه برنامج مصري، أعدته الحكومة المصرية ووضعت مستهدفاته وآليات تنفيذه. وفي هذا السياق، أو تأسيسًا على كل ما سبق، يمكنك قراءة، مراقبة أو متابعة، صعود وهبوط وتأرجح الدولار، وسعر الفائدة، وأسعار السلع، بعيدًا عن «هري» الخبراء، المحليين أو الدوليين، إذا جاز وصفهم بذلك.
("الأهرام") المصرية