.. إنّـما أتـى الإيـعازُ ذاك يـتـغـيّـا توجيـه رسالـةٍ سياسيّـة إلى إدارة جـو بايـدن مـفادُهـا أنّ "إسرائيـل" لا تُـرحِّـب بـدعـوة البيت الأبيض إلى غـانـتـس وتعـتـبـرها تـدخُّـلًا في الشّـؤون الـدّاخليّـة لـدولة الاحـتـلال، مثـلمـا هي دعـوة تـأتـي خارج السّـياق الرّسمـيّ للعـلاقـة و، بالتّـالي، هي زيـارةُ فـردٍ معارِض لا يمُـثّـل إلاّ نـفـسَـه وحـزبَـه وليس لرئيس أمـريكا أن يَـحُـلّ معه أو يـربُـط في أيّ شـأنٍ سياسيّ يتـعلّـق بـ"إسـرائـيل" وبحـربـها على غـزّة ومستـقـبل القـطـاع بعـد الحـرب.
ليس من دهـاءٍ سياسيّ يَـنْـقُـص ذلك الإيـعاز إلى سفـيـر الاحتـلال في واشـنـطـن، لكـنّـه يُـضْـمِـر - في الوقـت عيـنِـه - انـزعـاجًا شـديـدًا لا يُـخْـفـيـه الخُـبْـثُ الذي لُـفَّ فـيه، والذي عُـرِف عن نـتـنيـاهـو دائـمًا. لقـد كان يمكـن إبـلاغُ سـفيـر الاحتـلال بالإحجام عن استـقـبال غـانـتـس ومـرافـقـتـه في واشنـطـن - وهـو عيـنُـه ما كان يمـكـن الإيـعازُ بـه إلى سـفيـره في لـنـدن - بتعِـلّـة أنّ زيـارة غـانـتـس ليست رسمـيّـة، من غـير الإعـلان عن ذلك والمبالغـةِ في ذلك الإعـلان.
اجتراء نتنياهو على إدارة بايدن مَبْعَثُه ما يتمتّع به من نفوذٍ داخل اللّوبي الصهيونيّ في الولايات المتّحدة
لكـنّ نـتـنيـاهـو أصـرّ على أن يسمـع العالـم أنّـه منـزعـجٌ من مبادرة بايـدن بـدعـوة غـانـتـس من غيـر عِـلْـمـه هـو (= نـتـنيـاهـو)؛ ومنـزعـجٌ من تـدخّـله في شؤون داخـلـيّـة، ليس افـتـعالًا منه لذلك الانـزعـاج، بل لأنّـه واقـعٌ قيـد الشّـعور بـه، فـعـلًا، ولأنّـه يرى في تلك المبادرة إهـانـة لـه على الصّـعـيد الشّـخـصـيّ. مع ذلك، عـرف نـتـنيـاهـو كيف يـقـدّم انـزعاجـه على النّـحـوِ الذي يبـدو فيـه رجـلًا حريـصـًا على احتـرام تـقـاليـد الـدّيبلـوماسيّـة والتّـمسُّـك بها في العـلاقـة بـدول العالم بما فيها أقـربُـها محالَـفـةً لـدولـة الاحتـلال. بهـذا الانـزعـاج الملفـوف في لغـةٍ ديـبلوماسيّـة، لـن يستـطيـع أحـدٌ في إدارة بايـدن أن يؤاخـذ حكـومـة الاحتـلال على مـقاطعـة سـفارتـها في واشـنـطـن لفـعاليّـات الزّيارة؛ فـهـذا في جملـة الحـقوق الـدّيبـلوماسيّـة المرعـيّـة في مثـل هـذه الأحـوال التي لا تكون فيها الزّيارات رسميّـة.
الأهـمّ من توجيـه رسالة إلى بايـدن، عنـد بنـياميـن نـتـنيـاهـو (ومِـن وراء بايـدن زعـمـاء دول الغـرب الآخـريـن، الذين قـد يحـذون حـذو رئيس أمـريكـا فـيـجـترئـون على رئيس حكـومة الاحتـلال)، هو توجيـه رسالة إلى داخـل الكـيان: إلى الكُـتـل والأحزاب الصّـهيـونيّـة والـدّينـيّـة اليمـينـيّـة المتطـرّفـة، التي منها تـتألّـف حكـومتُـه؛ وإلى الرّأي العـامّ الجانـح نحـو مـزيـدٍ من التّـطـرُّف؛ وإلى المستوطـنـين الذين بـات - هـو وحـزبُـه - ("ليـكـود") - رهيـن شـروطهـم وإملاءات أحـزابـهـم. إلى هـؤلاء - وهُـم جـمهـورُه - يريـد أن يقـول إنّـه الأكـثـر تـمسّـكًا بـ"استـقـلاليّـة" قـرار دولـة الاحتـلال: حتّـى عـن أقـرب حـليـفٍ لها في العالـم، والأكـثـر تشـدُّدًا في شـروطـه السّياسيّـة لإنـهاء الحـرب على غـزّة. وغـنيٌّ عن البيـان أنّـه لا يَـخْـلع على نـفـسه هـذه الصّـفات "الوطنيّـة" إلاّ في السّيـاقِ عـيـنِـه التي يخـلعها عـن غـانـتـس؛ حيث يبـدو الثّـاني في ميـزان المقـارنـة خائـنًا (على نحـو ما لَـمَّـح إلى ذلك سموتريـتـش حين اتّهـمه بأنّـه يخـدم مصلحة إدارة بايـدن) أو مفـرِّطًا أو ضعيفًا أمام الضّـغـط الأمـريـكيّ. وهـو، بذلك، يَـصيـد العصفـوريْـن بالحجـرِ الواحـد!
لا يُخْفي نتنياهو سعيه إلى إطالة أمد حربٍ يدْفع بايدن أكلافها سياسيًّا من مستقبله الرئاسيّ
والحـقُّ أنّ اجـتـراء نـتـنيـاهـو على إدارة بايـدن ليس قـرينـةً على شجاعتـه - وإنْ كان قريـنـةً على ضَعـف رئيس أمـريكـا أمامـه - بـل مَـبْعَـثُـه ما يتـمتّـع بـه من نـفوذٍ داخل اللّـوبيّ الصّهـيونيّ في الولايات المتّـحدة الأمريكـيّـة ومراكـز القـوّة فيها، بما في ذلك داخل الكـونغرس، مع ما يـقـترن بذلك النّـفـوذ - ويـتـولّـد منـه - مـن اطمـئـنـانٍ إلى حـدود ما يستـطـيعـه بايـدن في ضغـطـه. وهـو إذْ يَـعْـلَم أنّ بايـدن مـدرِكٌ للقيـود التي يُـلقـيـها نـفـوذُ اللّـوبيّ الصّـهيـونيّ على حـريّـة قـراره تجـاه حكـومـة نـتـنيـاهـو، فإنّ الأخيـر لا يُـخْـفي سعيـه إلى إطالة أمـد حـربٍ يـدْفـع بايـدن أكـلافـها سياسيًّا من مستـقبـلـه الرّئاسيّ في الانـتخابات القادمة خريف العام. هكـذا يتصـرّف نـتـنيـاهـو معه على نحـوٍ ليس يخلـو من ابـتـزازٍ ضـمـنيّ، كما لـو أنّـه يقول له، ضمـنـيًّا، إنّ مستـقبلـه الرّئاسيّ رهيـنُ نتـنـياهـو وليس العـكس كما يعـتـقـد وهو يستـضيف غـانـتس في البـيـت الأبـيـض.
(خاص "عروبة 22")