لا يوجد أدنى شك في أن هناك جهات تعمل ليل نهار لتدمير كل المحاولات، في الماضي وفي الحاضر، التي تبذلها بعض قوى المجتمعات العربية لبناء أيديولوجية عربية شاملة تقود الأمة العربية نحو وحدتها وتنميتها وقوتها. ولعل أكبر وأخطر تلك المحاولات التدميرية هي التي بذلها ويبذلها الاستعمار الغربي، بالتعاون والتنسيق مع مختلف القوى المعادية في العالم كله.
وكمدخل لتلك المحاولات التدميرية تبذل تلك الجهات جهوداً هائلة لإثارة النّعرات والانقسامات والأوهام الدينية والطائفية المذهبية والعرقية والمناطقية في كل أرجاء الوطن العربي.
من هنا الأهمية القصوى لطرح مواضيع الهوية العربية وما يتبعها من أهمية وجود مشروع أيديولوجي ذاتي تقدمي إنساني جامع. وهذا مشروع طرحته عدة أجيال عربية سابقة وبأشكال مختلفة، وبالتالي فإن المطلوب هو إعادة الوهج إليه، بعد أن مرّ عبر القرن الماضي بأكمله في محن لا حصر لها. ولا يضعف ذلك الوهج الجديد أن يكون حصيلة مراجعات وإضافات وتجديدات تأخذ بعين الاعتبار مستجدات العالم التي تتعامل معها هذه الأمة.
وفي اعتقادي أن المنطلق الفكري والتكويني لهذه الأيديولوجية هو موجود في المشروع النهضوي العربي الذي طرحه مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي كحصيلة لكتابات وأطروحات ومناقشات عشرات المفكرين والقادة والمناضلين، عبر جهود مكثفة استغرقت العديد من السنوات، امتدت من بداية تسعينات القرن الماضي إلى نهاية العقد الأول من هذا القرن.
وهو مشروع طرحه واضعوه، ليكون مشروعاً للأمة العربية كلها وعبر الوطن العربي كله، وحرصوا على أن يكون مترابطاً ومتناغماً ومتكاملاً في كل مكوناته. ويكفي لشابات وشباب الأمة أن يعرفوا أنه كان جواباً فكرياً واستراتيجياً مفصلاً لكل مشاكل الحياة العربية الكبرى في الحاضر، ولكل آمال وطموحات الأمة في المستقبل.
وعندما ندخل في مبررات وأهمية وضرورة وجود أيديولوجية مقاربة أو مماثلة للمشروع النهضوي العربي سنبين بصورة قاطعة، أنه يمثل جزءاً من سيرورة، ستحتاج أن تتغير وتتبدل مع أوضاع هذه الأمة، لا تصوراً مقدساً نهائياً جامداً. فتاريخ هذه الأمة هو تاريخ تكوّن مستمر نحو الأعلى والأفضل والأكثر إنسانية.
وبالرغم من أن المشروع تعامل مع موضوع الهوية العربية الواحدة، الضرورية لانطلاق ذلك المشروع، إلا أنه تجنب الدخول في تفاصيل التفعيل وأدوات التنفيذ التي ستنقله من أرض الفكر والآمال إلى أرض الواقع المتحقق. وهذا ما سنحاول أن نتعامل معه في مقالات مستقبلية. وسيعرف القارئ عند ذاك أن هذه النقطة يجب أن تكون في صلب الموضوع، إذ من دون مواجهتها سيبقى المشروع مشروعاً فكرياً نظرياً تثقيفياً، لا مشروعاً سياسياً لاستراتيجية أيديولوجية حضارية نضالية لأمة العرب.
دعنا نذكر بأن أحد أسباب انتكاسات الحركات الشعبية الهائلة في بعض أقطار الوطن العربي منذ عام 1910 وحتى أيامنا الحالية كان غياب المشروع الأيديولوجي الواحد، بمكوناته بالنسبة للهوية والأفكار السياسية الواضحة وقوى التفعيل النضالي المستمر، وأن طرحه ليكون أيديولوجية نضالية فاعلة في الواقع، أصبح ضرورة قصوى لأي حراك شعبي مستقبلي.
وبصراحة، لن يكفي أن يقوم بهذه المهمة فرد هنا أو هناك، أو مؤتمر يجتمع بين الحين والآخر، ليصدر بياناً لا يقرأه إلا نفر قليل، فهذه مهمة معقدة وثقيلة، وستحتاج إلى تضحيات. وكل ما نستطيع تقديمه لشاباتنا وشبابنا هو تصورات ستحتاج إلى إغناء وتعميق وإدخالها في وعي مجموعة تحمل المشروع على أكتافها وتناضل من أجله.
مبرّر هذا القول هو أنني حضرت مئات الاجتماعات والمناقشات عبر الكثير من أجزاء الوطن العربي من أجل بحث ما وصلت إليه أمور هذه الأمة، ومن أجل طرح سؤال ما العمل؟. في الكثير من تلك اللقاءات غلبت الثرثرة والنظرات التجزيئية وغابت المناقشات بشأن الأدوات العلاجية.
ولذلك فالحاجة هي لفعل أكثر من ثرثرة وإصدار بيانات، الحاجة هي لأفعال في الواقع من أجل البدء بمسيرة تغييرية تراكمية.. وأمّتنا تستحق ذلك.
("الخليج") الإماراتية