وكان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة قد أعاد فتح ملف تجنيد "الحريديم" من جديد، حيث يدعو العديد من القادة الإسرائيليين إلى إقرار القانون الخاص بهذا الشأن، كزعيم المعارضة يائير لابيد ورئيس حزب "يسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان. ومن غير المتوقع أن يتنازل "الحريديم" عن امتياز عدم الخدمة في الجيش والقتال في صفوفه بسهولة، خصوصًا أنّ هذا الأمر له اعتبارات لاهوتية بالنسبة إليهم. مع العلم أن الجدل حول هذه القضية داخل الإئتلاف الحاكم يعود إلى ما قبل عملية "طوفان الأقصى"، لا سيما أنّ سريان القانون الذي يعفي "الحريديم" من الخدمة الإلزامية كان قد انتهى مفعوله في شهر يوليو/تموز الماضي.
عودة هذا الملف إلى الواجهة اليوم، كانت بعد أن قدّم الوزيران من حزب "المعسكر الوطني" بيني غانتس وغادي آيزنكوت، خطتهما لتجنيد "الحريديم" في الجيش، مشيرين إلى أنّ دعمهما لجهود الحكومة لتمديد مدة الخدمة العسكرية، مرهون بتطبيق تلك الخطة الهادفة إلى زيادة عدد الإسرائيليين الذين تم تجنيدهم تدريجيًا على مدار السنوات الـ10 المقبلة. مع العلم أنّ المحكمة العليا قد طلبت، في الشهر الماضي، من الحكومة، نتيجة التماسات ضد قرارها عدم تجنيد طلاب المعاهد الدينية، بأن تفسر لماذا لا يتم تجنيد هؤلاء، على الرغم من انتهاء سريان قانون التجنيد الذي يعفيهم، ولماذا تدعم طلاب هذه المعاهد، حيث سيكون عليها تقديم ردها خلال الشهر الحالي.
وفي حين كانت الحكومة الإسرائيلية تطمح إلى إقرار مشروع قانون يستثني "الحريديم" من الخدمة العسكرية، ويزيد مدة الخدمة الإلزامية من 32 إلى 36 شهرًا، بما يشمل أيضًا المجنّدين الحاليين، جاءت المفاجأة من وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي أعلن أنه لن يقدم القانون دون موافقة جميع كتل الائتلاف الحكومي. الأمر الذي فُسّر على أساس أنه سيقود إلى تكبيل يد نتنياهو ويجرّده من قوته التي يمتلكها من خلال تحالفه مع الأحزاب اليمينية المتطرّفة.
من هم "الحريديم"؟
يطلق مصطلح "حريديم" على اليهودي الأرثوذكسي المتزمّت دينيًا، وتحديدًا يهود شرق أوروبا الذين يمتازون بإطلاق لحاهم وتتدلى على آذانهم خصلات من الشعر الطويل. وتبلغ نسبة الحريديم 13.6% من سكان إسرائيل، إلا أنّ عددهم يتضاعف كل عشرة أعوام، ومن المتوقع أن تكون نسبتهم عام 2028 أكثر من الخمس، وعام 2059 ستتخطى نسبتهم 34.6%.
تعيش غالبية "الحريديم" في فلسطين التاريخية وأميركا، وينتمون في معتقداتهم إلى التوراة والأصول الفكرية اليهودية القديمة. حيث يعيش الجميع حياة مكرسة للإيمان، ويجتمعون في المعابد 3 مرات في اليوم للصلاة، ويتعلمون في المعاهد الدينية الكبرى.
الجذور التاريخية لأزمة التجنيد
هذه الأزمة ليست بالجديدة على المجتمع الإسرائيلي، فهي تعود إلى تاريخ تشكيل أول حكومة برئاسة ديفيد بن غوريون، حين وافق الأخير على طلب حزب "أجدوت يسرائيل"، إعفاء 400 طالب في المدارس الدينية من الخدمة العسكرية. بينما تم، في العام 1958، تقييد هذا الإعفاء، نتيجة تزايد أعداد هؤلاء الطلاب، بمن يدرسون بشكل فعلي.
على مدى سنوات، ظلت هذه القضية مدار أخذ ورد دون الوصول إلى حلول جذرية، إلى أن حاول رئيس الوزراء الإٍسرائيلي السابق إيهود باراك، في العام 1999، إيجاد الحل، من خلال تشكيل لجنة عُرفت باسم "لجنة طال"، أقرت حق من يؤمن بأن التوراة هي عقيدته وعالمه ويكرس حياته لها بالإعفاء من التجنيد، مع التشديد على المراقبة والتأكد.
في العام 2006، رأت المحكمة العليا أنّ هذا القانون "يمس الحق في المساواة"، إلا أنّ الحكومة قررت تمديده بأمر طارئ 5 سنوات، بينما ألغت المحكمة العليا، في 2012، قرارات "لجنة طال".
في العام 2014 جرت صياغة أول قانون تجنيد ينص على عدم إعفاء المتديّنين من الخدمة، لكنه منحهم، إلى جانب العرب، إمكانية الاختيار بين خدمة عسكرية مقلصة وخدمة مدنية لمدة سنة ونصف السنة. إلا أنّ الحكومة التي كانت قائمة حينها، برئاسة نتنياهو، لم توافق على القانون، فعمدت إلى تشكيل لجنة وزارية قدمت صيغة أُقرت في لجنة خاصة داخل الكنيست، نصت على أن تحدد الحكومة "عددًا مستهدفًا للتجنيد سنويًا" من بين المتديّنين، لكن لم يتم تنفيذ ذلك.
في العام 2017، ألغت المحكمة العليا قانون العام 2015، معتبرةً أنه "يمسّ بالمساواة". ومنذ ذلك الوقت لم ينجح الكنيست في الوصول إلى صيغة جديدة، بينما كان قد حصل أكثر من تمديد لإعفاء "الحريديم".
الخيارات المتاحة أمام نتنياهو
في وسائل الإعلام الإسرائيلية، الكثير من السيناريوهات التي يتم التداول بها حول كيفية معالجة هذه الأزمة، خصوصًا أنه بدون دخول قانون جديد حيّز التنفيذ، ابتداءً من الأول من نيسان، سيتم وقف تدفق الأموال التي تدفع إلى مؤسسات التعليم "الحريدية"، ما يمثل التهديد الأكبر للإئتلاف الحكومي الحالي. ما دفع صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" العبرية، على سبيل المثال، إلى الحديث عن مخاوف من سقوط الائتلاف الحاكم.
من ضمن السيناريوهات التي يتم التداول بها: خضوع الأحزاب "الحريدية" لخطة تجنيد، يتم الإتفاق عليها بين مكونات الحكومة الحالية، أو رفضها هذا الأمر والإنسحاب من الإئتلاف ما سيقود إلى الذهاب إلى إنتخابات مبكرة.
في مطلق الأحوال، تعكس هذه الأزمة، التي تحوّلت من أزمة تجنيد إلى أزمة كيان، شرخًا كبيرًا يضاف إلى الشروخ المتزايدة في المجتمع الإسرائيلي، والخلافات السياسية الداخلية المتصاعدة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.. والتي باتت تتقاطع في معظمها عند حالة الوهن التي يعيشها بنيامين نتنياهو والتي تدفعه إلى التمسّك أكثر فأكثر بأركان اليمين المتطرّف.. للنجاة برأسه.