من الأسئلة السياسية المتداولة في أحاديث المنتديات الثقافية التي تتناول مستقبل علاقات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مع الدول الكبرى، هي: كيف ستتعامل دول مجلس التعاون الخليجي في حالة التنافس الصيني- الأمريكي على النفوذ في المنطقة؟
وفعلاً، طُرح عليّ هذا السؤال، مؤخراً، في منتدى «مستقبل العلاقة الصينية-الخليجية»، الذي نظمه مركز تريندز للبحوث والاستشارات، بحضور مسؤولين من الصين، ومنهم السفير الصيني لدى الدولة. ولكن قبل استعراض الإجابة التي قلتها في المنتدى، أرى أنه من المناسب وضع بعض ملامح لطبيعة الحراك الدبلوماسي الخليجي الدولي النشط، بدءاً من عام 2013 إلى الآن، وإن كانت وتيرة هذا النشاط قد أخذت منعطفاً كبيراً بعد قمة العُلا في المملكة العربية السعودية في 2021، والتي شهدت مصالحة عربية. وذلك من منطلق أن لهذا التساؤل المتداول، والذي يحمل في داخله قلق أسس دفعت المراقبين للبحث عن إجابة له.
من تلك الملامح، أن دول مجلس التعاون الخليجي استطاعت خلال عقد من الزمن، أن تنوع من علاقاتها مع الدول الكبرى، مثل الصين وروسيا، بجانب الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الاستراتيجي لها. وأنها زادت من شراكاتها العالمية مع بعض الدول المؤثرة إقليمياً، مثل الهند وفرنسا، بل وضاعفتها مع منظمات إقليمية بديلة، مثل حضور كل من الإمارات والسعودية لقمة «بريكس»، في كيب تاون بجنوب أفريقيا، التي أسستها في عام 2013، كل من: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. كما أنها سعت لحلحلة أزماتها مع الآخرين، وتصفير المشاكل مع جيرانها، خاصة تركيا وإيران، فأصبح الحديث بينهما (الجوار ودول الخليج)، حول زيادة مجالات الاستثمار والتبادل التجاري.
لكن المؤكد أن هذه الخطوات الخليجية الجريئة والمدروسة بعناية، هي نتيجة لسلوكيات الإدارة الأمريكية منذ عام 2008، وتتالت بمعدل متصاعد مع مرور الوقت، ووصلت أحياناً إلى أن الحليف التقليدي الأمريكي، يقدم الدعم لمن يعملون على زعزعة الاستقرار في المنطقة، من خلال اتباع سياسات الانسحابات في العراق ثم أفغانستان، وكذلك تجاهل (عمداً) وجهة النظر الخليجية في قضايا المنطقة.
نجحت الدول الخليجية، وبشكل مبهر، في إيجاد مسارات مناسبة لرؤيتها الجديدة في علاقاتها الدولية في أمرين اثنين، هما. الأول: خلق توازن بين القوى الدولية التي تتعامل معها، حيث لم يعد الاتكال على حليف دولي وحيد، أو على الأقل كان الاعتماد عليه بنسبة كبيرة، وقد جاءت تجربة الحرب الأوكرانية-الروسية، كاختبار لهذا التوازن الخليجي، وقد نجحت فيه بأنها لم تنحز لطرف دون آخر، بل استطاعت أن تكون هي الطرف الذي يبادر بطرح وساطة لتبادل الأسرى وتهدئة الصراع.
الأمر الثاني: أنها حققت مرونة دبلوماسية في قراراتها السياسية، ومواقفها الدولية، وربما موقفها من عدم الانصياع للضغط الأمريكي بشأن تعويض سوق النفط الدولي للنفط الروسي، كان أحد تلك المواقف. ورغم محاولة «تسييس» قضية النفط وتحويلها أداة ضغط ضد الدول الخليجية، إلا أن هذه الدول استمرت في استقلال قرارها السيادي.
الذين يطرحون تساؤلاً عن مستقبل العلاقة الخليجية الأمريكية، في ظل التنافس مع الصين. إما أنهم ينطلقون من معتقدات سياسية «جامدة» حول طبيعة العلاقة الأمريكية-الخليجية، ظنوا أنها غير قابلة للتغيير، مع أن الواقعية الخليجية شديدة الوضوح في علاقاتها الجديدة. أو لأن طريقة تفكيرهم سيطر عليها الاستغراب حول التوجه الخليجي شرقاً، خاصة باتجاه الصين، الدولة الصاعدة في الساحة الدولية.
بالعودة إلى الإجابة التي قلتها في المنتدى حول مستقبل العلاقة الخليجية-الصينية، كانت في جزئيتين. الأولى: أن مسألة تفضيل الخليجيين لحليف دون آخر، فإن هذا يعتمد على تقدير صانع القرار الخليجي في أيٍ من الحليفين الدوليين من الممكن أن يحقق له الأهداف الوطنية لدولته ولشعبه. أما الجزئية الثانية، وربما من حيث الترتيب النظري هي الأبدى: أن التجربة التاريخية علمتنا أن سيطرة قوى دولية واحدة على النظام الدولي، ليس في مصلحة الدول المتوسطة والصغيرة، لأنها ستفتقد إلى «مرونة الحركة والمناورة السياسية»، وبالتالي، فالتنافس الصيني-الأمريكي، إن وجد، فهو: ميزة سياسية للدول الخليجية.
البيان