وبينما تعلو بحدة الأصوات التي تنتقد حرب الإبادة التي يشنّها جيش الاحتلال داخل الولايات المتحدة، فإنّ أهمية النقد هذه المرّة تأتي من موقع وسجل وتاريخ صاحبه، وهو ما زاد من تأثيره والتأكيد على أنّ إدارة بايدن قد خلعت القفاز وقررت الانتقال لمرحلة جديدة في مواجهة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو لإجباره على وقف القتل الجماعي اليومي للفلسطينيين في غزّة، واستخدام أسلحة التجويع والقتل العشوائي لإجبار حركة "حماس" على القبول بشروطه وتحقيق النصر الوهمي الذي يتطلع له لإنقاذ نفسه وضمان البقاء في منصبه لأطول وقت ممكن.
وبينما ركّزت التغطية الإخبارية على مطالبة تشومر الصريحة والعلنية باستقالة نتنياهو، الذي وصفه بالصديق الشخصي منذ عقود، وعقد انتخابات جديدة وتحذيره له أنّ تحالفه الصريح مع المتطرّفين العنصريين يهدد مستقبل المشروع الصهيوني، مما سبب حرجًا بالغًا لكل من يدعي في الكيان الصهيوني أنهم دولة مستقلة تتخذ قراراتها بنفسها وليسوا محمية أو جمهورية موز تُدار شؤونها من واشنطن، فلقد كان ما لفت انتباهي أكثر المقدّمات التي أوردها تشومر في خطابه لتبرير تلك النصيحة باعتباره صهيونيًا مُحبًا حتى النخاع، مؤكدًا عمق وترسخ نفوذ اليهود الأمريكيين في الولايات المتحدة واعتبار دعم الدولة اليهودية أمرًا مسلّمًا به وجزءًا من الثقافة الأمريكية العامة.
استخدم تشومر التعبير الأكثر اقترابًا من الحقيقة عندما قال في خطابه: "حُب إسرائيل هو في عظامنا"
وهذا وضع لا تحظى به أي أقلية أخرى في الولايات المتحدة التي تفتخر بأنها وعاء لصهر كل ثقافات وعرقيات العالم. ولا يمكن بكل تأكيد أن يخرج أمريكي عربي أو مسلم، على سبيل المثال، ليتحدث بالفخر نفسه عن أصوله العرقية وديانته ومدى امتزاجها بالثقافة الأمريكية كما فعل تشومر، والذي أكد مرارًا وتكرارًا في خطابه أنّ انتقاداته تأتي من موقع الساعي للحفاظ على المشروع الصهيوني الذي رأى فيه حلمًا تحقق بعد آلاف الأعوام بإنشاء وطن وملاذ آمن لليهود في العالم بعد قرون من الاضطهاد والمذابح.
تشومر الذي قال إنه يتحدث "نيابةً عن التيار العام بين اليهود الأمريكيين وهم أغلبية صامتة لم يتم التعبير عن موقفهم المتوازن في سياق النقاش الدائر حاليًا حول غزة"، بدأ بالإشارة إلى أنّ اسم عائلته مشتق من كلمة عبرية هي "شومر" وتعني "الحامي" أو "الحارس".
وقال: "بالطبع مسؤوليتي الأولى هي نحو أمريكا ونيويورك. ولكن بصفتي أول يهودي يترأس الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي، وصاحب أعلى منصب منتخب يناله يهودي في تاريخ أمريكا، فإنني أيضًا أشعر بعمق مسؤولتي بصفتي (شومر إسرائيل) أو حامي شعب إسرائيل".
وربما استخدم تشومر التعبير الأكثر اقترابًا من الحقيقة، والذي سعى الصهاينة الأمريكيين لترسيخه على مدى عقود، عندما قال في خطابه، "إنّ حُب إسرائيل هو في عظامنا".
ومن هذا المنطلق سرد انتقاداته لنتنياهو، مطالبًا بإقالته هو والرئيس الفلسطيني محمود عباس، مع التشديد على ضرورة القضاء على حركة حماس "الإرهابية" التي اتهمها باستخدام المدنيين دروعًا بشرية والتأكيد على أنها لن يكون لها دور في الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح التي يجب العمل على إنشائها، كما أكد دعمه لإدارة بايدن وضرورة استخدام الولايات المتحدة لتأثيرها من أجل وقف الحرب التي جعلت من دولة الاحتلال كيانًا منبوذًا على مستوى العالم وهو ما ألحق ضررًا بالغًا بالمشروع الصهيوني.
خطاب تشومر، الذي تجاوز ستة آلاف كلمة وألقاه على مدى نحو أربعين دقيقة من منبر مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يبلغ عدد أعضائه مائة ويُعد مصدرًا رئيسيًا للمرشحين للرئاسة في الولايات المتحدة، نال هجوما لاذعًا من قيادات الحزب الجمهوري في المجلس واعتُبر طعنة في الظهر لحليف يخوض حربًا وهو ما يستوجب سياسة "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" وليس توجيه الانتقادات والمطالبة بتغيير الحكومة ورئيس الوزراء".
على العرب والمسلمين الأمريكيين أن ينالوا مكانتهم المستحقة كأقلية فاعلة تستطيع التأثير في السياسة الرسمية
ولتأكيد أنّ ملف حرب الإبادة التي يشنّها جيش الاحتلال ضد غزّة قد تحوّلت إلى شأن داخلي أمريكي في الانتخابات المقبلة، فلقد قامت قيادات مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري بدعوة نتنياهو للحديث أمام مؤتمر مغلق نهاية الأسبوع الماضي لتأكيد الدعم له، ولكنه لم يتمكن من المشاركة ومثّله سفيره لدى واشنطن. كما عقد النواب الجمهوريون في مجلس النواب مؤتمرًا صحفيًا شنوا فيه هجومًا حادًا على تشومر، مؤكدين أنهم الأصدقاء الحقيقيون لدولة الاحتلال.
ولكن الجدل الذي سبّبه خطاب تشومر المفرط في الافتخار بصهيونيته يذكّر مجددًا بالطريق الطويل الذي يجب على العرب والمسلمين الأمريكيين شقه لكي يستطيعوا أن ينالوا مكانتهم المستحقة كأقلية فاعلة في الولايات المتحدة تستطيع التأثير في السياسة الرسمية كما هو حال اليهود الأمريكيين الذين يتعاملون مع الوضع في الكيان الصهيوني على أنه شأن داخلي وخلاف داخل العائلة، وليس علاقة مع دولة أجنبية من غير المعتاد أو المقبول دبلوماسيًا المطالبة علنًا بإقالة رئيس حكومتها وعقد انتخابات يختارون فيها قيادة جديدة عدا نتنياهو الذي قال تشومر إنه قد "ضلّ طريقه" ووضع مصلحته الشخصية كأولوية قبل الحفاظ على مصالح الكيان الصهيوني وبقائه.
(خاص "عروبة 22")