وجهات نظر

"اليوم التالي"... هناك!

أشياء كثيرة جرى الترويج لها منذ بدء الحرب على قطاع غزّة، أو على وجه التحديد منذ اكتشفت إسرائيل أنها عاجزة عن تحقيق ما قالت إنها ذهبت إلى الحرب لتحقيقه، ولكن الشيء الأهم هو ما دار حوله كلام كثير كان عنوانه "اليوم التالي". وكان القصد ولا يزال أنّ الدولة العبرية لديها تصوّر عن اليوم التالي لوقف الحرب على القطاع، وأنها تريد أن تفرض تصورها، وأنّ الترويج لهذا التصور ليس سوى خطوة في هذا الاتجاه.

وقد نشط كثيرون بيننا في تناول ما سُمي بـ"اليوم التالي" وكانوا بالطبع يرفضون ما تتصوره تل أبيب وما تذهب إلى الترويج له، ولكن بعضنا ربما لم ينتبه إلى أنّ اليوم التالي الذي قصدته إسرائيل، لم يكن يرمي إلى المعنى القريب في هاتين الكلمتين، وإنما كان يرمي إلى المعنى البعيد فيهما، وليس المعنى البعيد إلا المستقبل سواء كان يخص القطاع، أو الضفة الغربية، أو حتى يخص قضية فلسطين كلها في المجمل.

وقد بدا الأمر في مرحلة من مراحله، وكأن الإسرائيليين قد استدرجونا إلى ما أحبوا أن يستدرجونا إليه، عندما أشاعوا الحديث عن اليوم التالي فلسطينيًا.

ما معنى أن يُلوّح ما يقرب من سدس سكان الدولة العبرية بالرحيل والمغادرة عند أول اختبار؟

وقد كان أولى بنا في المقابل أن نستدرجهم إلى الكلام عن اليوم التالي إسرائيليًا، لأنهم إذا كانوا قد تصوروا أن في إمكانهم أن يجعلونا ننشغل بمستقبل غزّة بعد أن تضع الحرب أوزارها، أو مستقبل الضفة مع غزّة، فالأجدى أن ينشغلوا هُم بالتفكير في مستقبل إسرائيل، لا لشيء إلا لأن الطريقة التي خاضوا بها الحرب على المدنيين والأطفال والنساء في أنحاء القطاع، إنما تطرح تساؤلًا قويًا عما إذا كان التعايش مع الدولة العبرية ممكنًا في المستقبل، وعما إذا كانت هذه المنطقة من العالم يمكن أن تقبل بإسرائيل في مستقبل الأيام فلا تلفظها؟.

هناك الكثير الذي يجعل طرح مثل هذا التساؤل منطقيًا، وهناك الكثير الذي يجعله تساؤلًا في مكانه، وهناك الكثير الذي لا يجعله تساؤلًا متعسفًا، ومن بين هذا الكثير على سبيل المثال ما كان يسمى قبل الحرب على غزّة باتفاقيات السلام الإبراهيمي. فهي اتفاقيات وقّعتها تل أبيب مع أربع عواصم عربية في ٢٠٢٠، وكانت تريد أن تقول من خلالها إنها مستعدة للعيش مع دول المنطقة، وإنها جاهزة لذلك، فإذا بالحرب على غزّة تكشف زيف ما أرادت أن تقوله، وإذا بالإتفاقيات تبدو في أجواء الحرب وكأنها شيء من الماضي الذي انقضى، وإذا بالكلام عن التعايش، أو عن العيش معًا، أو عما يشبه العيش والتعايش، وكأنه سراب لا سبيل إلى الإمساك به ولا الحصول عليه.

ومع ذلك، فإنّ ما جرى من جانب طائفة "الحريديم" في إسرائيل يظل أقوى من كل ما سواه، إذا كان الحديث حديث مستقبل للدولة الإسرائيلية.

فهذه الطائفة تشكل ما يقرب من ١٣٪؜ من سكان إسرائيل، وهي طائفة يهودية أرثوذكسية شرقية، ولا تنشغل بشيء إلا بدراسة التوراة في أماكن منعزلة عن بقية السكان، ولا يذهب أفرادها إلى التجنيد بموجب اتفاق جرى في أيام نشأة الدولة العبرية، عندما كان ديڤيد بن جوريون على رأس الحكومة فيها.

ولكن لأن الحرب على غزّة قد أرهقت الجيش الإسرائيلي ونالت من أفراده، فإنّ حكومة بنيامين نتنياهو فكرت في استدعاء أفراد من "الحريديم" للتجنيد، وأعلنت ذلك على الملأ داخل إسرائيل، فقامت الدنيا على مستوى الطائفة، وكان الرفض المطلق هو رد فعلها، وهذا ما لم تكن حكومة التطرف الإسرائيلية تتحسب له أو تتوقعه.

لا خوف على مستقبل فلسطين والتفكير في "اليوم التالي" لا بد أن يخضع للتعديل

وقد وصل الرفض المطلق من جانب "الحريديم"، إلى حد أن رئيسها يتسحاق يوسف أعلن أنّ الحكومة إذا لم تتراجع عما تفكر فيه وعما أعلنته، فإنّ الطائفة كلها سوف تحمل متاعها وتغادر.

وكان حديثه قنبلة من العيار الثقيل، ثم كان مؤشرًا على أنّ إسرائيل تنشغل باليوم التالي الخطأ، لأنّ اليوم التالي الصحيح الذي لا بد أن تنشغل به هو اليوم التالي إسرائيليًا، لا اليوم التالي فلسطينيًا، وإلا فما معنى أن يُلوّح ما يقرب من سدس سكان الدولة العبرية بالرحيل والمغادرة عند أول اختبار؟.

أي مستقبل ينتظر الدولة التي لا يريد أبناؤها أنفسهم البقاء فيها ولا العيش على أرضها؟ وأي "يوم تالٍ" ينتظرها إذا كان هذا هو موقف طائفة كبيرة فيها عند لحظة الجد؟.. بل أي مستقبل لها يمكن أن تبدو ملامحه، إذا كان هذا هو حال طائفة بهذا الحجم فيها هناك؟.

لا خوف على مستقبل فلسطين، لأنّ هذه أرض فلسطينىة، ولكن الخوف هو على دولة يأنف جانب لا بأس به من أولادها من أن يظلوا فيها، ولذلك، فالتفكير في "اليوم التالي" لا بد أن يخضع للتعديل، إذا كان هذا هو حال طائفة "الحريديم".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن