السودان إلى أين؟

يواجه السودان كدولة تحديات جساما، تهدد أمنه واستقلاله ووحدته وسلامته الاقليمية، في ظل صراعات وانقسامات داخلية بين مكونات المجتمع السوداني، بما في ذلك مكونه العسكري الأمني الذي يتجسد في كيانات عسكرية نظامية وأخرى غير نظامية.

يدور بين تلك المكونات والكيانات صراع محتدم على السلطة والثروة والسيطرة والنفوذ، وفي ظل توجهات ونزعات استقلالية كامنة وظاهرة بولايات في الأطراف. تتعزز هذه الصراعات وتلك الانقسامات بتدخلات لقوى إقليمية ودولية تدعم أطرافا ضد أخرى في اتجاهات متباينة تتسق ومصالح ذاتية لكل منها، حيث يحتدم صراع إقليمي ودولي على السودان لاعتبارات جيوسياسية حيوية إقليميا ودوليا ترتبط بهويته العربية الإفريقية، ولما يمتلكه من ثروات طبيعية إستراتيجية هائلة سواء ما كان منها تعدينيا في باطن الارض أو زراعيا رعويا بمساحات شاسعة على سطحها أو بصدد ثروات طبيعية بحرية بجانب موانئ السودان الواقعة على البحر الأحمر.

تعددت المبادرات من جانب دول ومنظمات إقليمية ودولية، ولم يتمكن أي منها من تجاوز هذه التحديات. وعلى الرغم من تعدد تلك المبادرات، فلم يزل الصراع السياسي، بين الأحزاب والقوى والكتل السياسية قائما، والعسكري محتدما بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة، وهما كيانان عسكريان أساسيان في المؤسسة العسكرية.

قد اتسع نطاق الصراع العسكري ليشمل تقريبا معظم الولايات السودانية، مخلفا وراءه أوضاعا إنسانية مأساوية تشمل أعدادا ضخمة من النازحين في الداخل ومن اللاجئين الى الخارج خاصة بدول الجوار، حيث يعاني الملايين نقصا حادا في الغذاء والدواء وتفشي الامراض، بجانب ما تعرضت له مؤسسات الدولة والمنشآت والمباني والمنازل من هدم وتدمير، وعمليات سلب ونهب، وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وما قد يشبه عمليات إبادة جماعية في ولايات سودانية نسبت معظمها تقريبا الى قوات الدعم السريع.

وهكذا يشهد السودان دائرة مفرغة من الصراع السياسي والعسكري تتجسد في انعدام الأمن والاستقرار وفي أوضاع سياسية متأزمة واقتصادية متدهورة واجتماعية متصارعة وإنسانية مأساوية، وتدخلات خارجية مؤسفة. تستوجب هذه الحالة تحركا مصريا نشطا وفاعلا بحكم دورها المحورى ووزن مصر وثقلها إقليميا ودوليا وخصوصية العلاقات المصرية ـ السودانية في كل المجالات، وانفتاحها على كل الأطراف السودانية لمكونات المجتمع السوداني، وفي إطار ربط هذا التحرك بمبادرة دول الجوار التي انعقدت عليها الآمال من قبل، ومنبري جدة والبحرين اللذين سعيا الى التوصل لإيقاف إطلاق النار كهدف منشود لم يزل مفقودا.

هذا التحرك قد تضطلع به أيضا مكونات مدنية مصرية من المجتمع المصري من منطلق خصوصية العلاقات بين البلدين رسميا وشعبيا، وفي اتساق مع المؤسسات والأجهزة التنفيذية والشعبية المصرية، حيث تنشط على الساحة السودانية في هذا الإطار العديد من القوى المدنية السودانية التي يطرح كل منها مبادرات في هذا الصدد منفردة أو في تحالف مع قوى سودانية أخرى، مع توجه نحو الارتباط بأحد المكونين العسكريين مما يعمق الصراع ويضاعف من حدته. في ظل هذه التطورات تبنى المجلس المصري للشؤون الخارجية مبادرة مجتمعية من جانبه، تم طرحها وبلورتها في إطارها الشكلي والجوهري عبر لقاءات موسعة بين مكونات المجتمع السوداني تحت رعاية المجلس ليتم التوافق عليها وتفعيلها على أرض الواقع.

تستهدف المبادرة تسوية الأزمة السودانية من كل جوانبها عبر توافــق وطني بين مكونات المجتمع السوداني آخذة في الاعتبار ما قد تحقق من إيجابيات في مبادرات ومنابر سابقة. تتأسس المبادرة على مبدأ الشمولية سواء لمكونات المجتمع السوداني في إطار حوار سوداني/سوداني عبر مؤتمر جامع شامل كآلية وطنية خالصة. يمتلك السودانيون في إطار المؤتمر العملية السياسية بصدد مسارات الحوار، لتشمل أولا مسارا امنيا عسكريا يتناول إيقاف إطلاق النار والأعمال العدائية بشكل دائم وشامل وما يرتبط به من ترتيبات لإنفاذه طوعا أو جبرا، وثانيا مسارا إنسانيا يستهدف معالجة الأوضاع الإنسانية في الداخل والخارج وتوفير ممرات إنسانية آمنة مع تحديث البنية التحتة الخدمية، وثالثا مسارا سياسيا يستهدف التوافق على تشكيل هياكل السلطة الانتقالية لفترة زمنية في حدود عامين، من بينها تشكيل حكومة كفاءات مدنية انتقالية مستقلة، تتولى إدارة شؤون البلاد، وتمهد لإجراء انتخابات شفافة ونزيهة، ووضع دستور دائم للبلاد. ورابعا مسارا لإعادة البناء والإعمار والتحديث والتطوير يشمل البنية التحتية والمؤسسات الوطنية، والإصلاح الاقتصادي في إطار تنموي.

وتتأسس المبادرة أيضا على مشاركة الدول والمنظمات الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوداني كآلية إقليمية دولية تكون بمنزلة مجموعة اتصال إقليمية دولية، تتمحور مهمتها في إلاشراف والمتابعة وضمان إنفاذ المخرجات بجانب الاضطلاع بدور التيسير والتسهيل عند المقتضى. هذا ومن المؤكد أن المبادرة تأتي في إطار عدد من المبادئ الحاكمة ومن أبرزها المحافظة على وحدة السودان واستقلاله وسلامة أراضيه وعدم التدخل في شأنه الداخلي، والالتزام بخيارات الشعب السوداني ومبادئ ثورته المجيدة، والمحافظة على مؤسسات الدولة الوطنية. هذا على أن يؤخذ في الاعتبار أن يتم تفعيل المسارات في إطار صفقة واحدة أي في آن واحد وليس على مراحل تجنبا لإطالة أمد الصراع العسكري ووضع حد لمعاناة الشعب السوداني من المآسي والكوارث التي تحيق به، وتقصير فترة البدء في إعادة البناء والاعمار على النحو الذي يمكن معه عودة النازحين واللاجئين وإعادة الأمن والاستقرار وشيوع السلام في توقيت مبكر.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن