وجهات نظر

هل انتصر العدو؟

السؤال المُعلق أعلى هذه السطور إجابته كلمة واحدة هي "لا لم ينتصر العدو الصهيوني"، بل بالعكس لحقت به أكبر خسارة استراتيجية في تاريخه.. خسارة أطلقت رحلته الحتمية نحو تآكله ثم نهايته تمامًا ككيان عنصري مفرط في الوحشية أدمن ممارسة الإجرام إلى درجة الجنون.

هل انتصر العدو؟

يبدو هذا الكلام مختزلًا بشدة لدرجة ربما تدفع البعض إلى اعتباره مجرد شعارات تنطق بالأماني أكثر مما تنطق بالحقائق، لا سيما وأنّ الصورة الراهنة تضج بمعالم تدمير وقتل وإبادة وحشية رهيبة وهائلة وغير مسبوقة مارستها وما زالت آلة القتل والإجرام الصهيوني على امتداد أرض فلسطين وخصوصًا في قطاع غزّة الذي يكابد سكانه ويكافحون حاليًا كفاحًا أسطوريًا مريرًا للفوز بفرصة للبقاء على قيد الحياة والإفلات من محرقة فظيعة لم يعرف لها التاريخ البشري الحديث مثيلًا، إذ إنّ من تُكتب له النجاة من القتل بالصواريخ والقنابل والرصاص، ينهش أحشاءه الآن وحش المجاعة.

هؤلاء البعض - أستثني منهم الخونة والمهزومين ذاتيًا - المذكورون في الفقرة السابقة، ربما أصيبوا، بسبب الثقل الفادح لجرائم العدو، بنوع من العمى العقلي المؤقت الناجم عن أنّ تلال الحزن والفزع التي أحدثت في النفوس شروخًا مؤلمة وعميقة سمحت بتسرّب سموم اليأس والقنوط إلى نفس بشرية أنهكتها مشاهد جرائم لا تُحتمل.

جرائم العدو هي سبب مباشر في هزيمته

لكن لو تحرّر هؤلاء الذين يستبد بهم اليأس الآن من فيض دواعيه وأسبابه، وأزاحوا من أمام عيونهم قليلًا هذا الركام المريع الذي تختلط فيه جثث آلاف الشهداء ببقايا الشجر والحجر المدمر، عندئذ سيتمكنون من رؤية حقيقة أنّ العدو انهزم فعلًا رغم كل جنونه الوحشي وارتكاباته المشينة المنفلتة من كل قيود الإنسانية والقانون والضمير، فقد سحق نفسه بنفسه وأسقط عن كيانه المشوّه أية شرعية، وبقى أمام الدنيا عاريًا لا يستر قبح كيانه العنصري المتوحّش، شيء.

إنّ جرائم العدو وإمعانه فيها، على عكس ما يعتقد المحبطون، هي سبب مباشر في هزيمته، فقد أثقلت بشكل هائل سجله الإجرامي وأزاحت عن وجهه القبيح تمامًا ونهائيًا، كل الأكاذيب الرديئة التي بقي عقود يستعملها في محاولة فاشلة لتزويق خلقته الشائهة.

هذا كلام ليس يسبح في فضاء فارغ، وإنما المشهد الإنساني الحالي مزدحم بمظاهر قوية وواضحة تشي بأنها بدأت تفعل فعلها وبالزمن ستتدحرج وتكبر رويدًا رويدًا لكي تصنع في نهاية المطاف حال جديدة كليًا من شأنها جعل هدف تفكيك الأساس العنصري للكيان الصهيوني، أمر ممكن، أو هو الممكن الوحيد.

إنّ الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته البطلة ستساعد، بلا أدنى شك، في إجلاء حقيقة أنّ هذا الكيان المقام على السرقة والاغتصاب، مجرد جملة عارضة في التاريخ الإنساني لأنه ببساطة، يعاند منطق مسيرة التطور البشري نحو الرقي والتطور والتسامي فوق العنف والاستعلاء والرغبة المنحرفة في اغتصاب حقوق الآخرين.

ورغم أنّ المجال يضيق عن رصد كل الظواهر التي تتزاحم في المشهد الإنساني الحالي، فإنّ تذكير اليائسين ببعضها ربما كفيل بإيقاظ الأمل وجلاء البصيرة.

فليس بلا دلالة بليغة خروج مئات ملايين البشر إلى شوارع وميادين الدنيا ليعلنوا بأعلى الصوت غضبهم واشمئزازهم مما يرتكبه الكيان الصهيوني في غزّة أساسًا وسائر أراضي فلسطين، بعدما راعهم هذا القدر غير المسبوق من التوحّش والاستخفاف بأرواح عشرات آلاف الأبرياء من الناس، وفيض جرائم القتل من أجل القتل فحسب.

كما ليس من دون معنى أو أثر هذا الشعور العارم بالخجل وربما العار أيضًا، ذاك الذي اكتسح تقريبًا كل مؤسسات المجتمع الدولي، بسبب تمادي العدو في جرائمه، ولم تستثنِ هذه المشاعر حتى أشد حكومات الغرب إمعانًا في التطرف الاستعماري والعدوانية، بمن فيهم بعض أركان المؤسسة الأمريكية الحاكمة التي لطالما قدمت وما زالت، كل أنواع وأشكال الدعم والإسناد للكيان الصهيوني منذ تأسيسه وزرعه عنوةً في قلب أمّتنا العربية.

في هذا السياق ليس ممكنًا أبدًا تجاهل قرار محكمة العدل الدولية بقبول النظر في دعوى دولة جنوب أفريقيا ضد الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وإصدار المحكمة عدة قرارات أخرى احتياطية يفترض أنها تلزم العدو قانونيًا بالكف عن ارتكاب أفعال الإبادة في غزّة.

لا بد من كفاح سياسي طويل النفس يستند إلى وعي عميق بحقيقة المأزق الوجودي للعدو

أما آخر الوقائع التي تشي ببدء ظهور إرهاصات تحلّل وتآكل شرعية وجود كيان العدو بين مجتمع الدول بعد الانكشاف الفاحش لطبيعته العنصرية المقززة، فقد كان قرار دولة كندا قبل أيام بوقف تصدير السلاح لإسرائيل، ما يشير بوضوح وبلاغة، وبغض النظر عن القيمة العملية لهذا القرار، إلى أنّ آلية "الدومينو" - الوصف لصحيفة يديعوت أحرانوت العبرية - بدأت في الدوران، بمعنى أنّ الموقف الكندي قد يجر خلفه مواقف مشابهة لدول أخرى.

إذن العدو انهزم هزيمة استراتيجية أكبر وأوسع كثيرًا من مجرد السقوط الأخلاقي، إذ هو سقوط في امتحان جدارته بالوجود في المجتمع الإنساني المتحضر كله. غير أنّ هذه الحقائق لا تستطيع بذاتها أن تفعل فعلها، ولكن لا بد من كفاح سياسي طويل النفس يستند إلى وعي لامع وعميق بحقيقة المأزق الوجودي للعدو.. وهذا موضوع المقال المقبل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن