تقدير موقف

"هيئة تحرير الشام".. على طاولة القرار التركي!

لا يمكن فصل التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول المنطقة الآمنة، التي وعد باقامتها في الصيف القادم في الشمال السوري وامتدادًا إلى شمال العراق بمعزل عمّا حدث ويحدث في شمال غرب سوريا، والموصوفة بمنطقة السيطرة التركية، والتي تتمركز فيها "هيئة تحرير الشام"، وتساهم في إدارتها عبر حكومة الإنقاذ التابعة لها إلى جانب الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الحليف الأقرب لأنقرة.

الربط بين تصريحات أردوغان ومصير "هيئة تحرير الشام" موصول بتطورات وتبدلات، تصاعدت في الأسابيع الاخيرة في شمال غرب سوريا، شملت حركة احتجاج غير مسبوقة ضد الهيئة وزعيمها أبو محمد الجولاني، وبلغت هتافات المحتجين في إدلب ومعظم مدن وبلدات المنطقة حد المطالبة بإعدام الجولاني وإسقاط الهيئة، وتفكيك أجهزتها، وتبديل سياساتها، ووقف ممارساتها وخاصة في موضوعات تعذيب الموقوفين والاحتفاظ بالمعتقلين في سجونها، وخرق الحريات العامة من جهة، والاستئثار بالمكاسب الاقتصادية واستمرار الفساد اللذين أشاعتهما الهيئة في فترة سيطرتها على إدلب عبر السبع سنوات الماضية.

ورغم القوة والتشدد اللذين توصف بهما سياسات الهيئة وزعيمها مع الواقعين تحت سيطرتها، والتهديدات التي أطلقها الجولاني في مواجهة الحراك الشعبي، والإجراءات التي قام بها في إطلاق معتقلين وموقوفين وخاصة المدرجين تحت ما سُمّي بـ"قضية العملاء" وبدء سياسات "إصلاح أمني" فإنّ التظاهرات والاحتجاجات لم تتوقف، مما يعني أنّ الوضع في إدلب مفتوح على خيارات أبعد، بينها تغييرات في العلاقات مع الهيئة وزعيمها، قد تكون في إطارها تسوية وسط، يتم الاتفاق على حدودها بين أوساط في الهيئة والمحتجين، يمكن أن ترعاها أو تشارك فيها تركيا، يتحدد بموجبها مصير الجولاني الذي يُعتقد أنه لم يعد له مستقبل في إدلب حتى إذا بقيت الهيئة هناك.

كان من المفيد لأنقرة أن يكون لها "ساقان" في منطقة سيطرتها: الائتلاف الوطني و"هيئة تحرير الشام – النصرة"

وجود الهيئة وسيطرتها على السلطة في إدلب عام 2017، لم يكن أمرًا بعيدًا عن موقف تركيا وموافقتها، بل إنه لم يكن بعيدًا عن جهدها في إعادة بناء الهيئة في صيغتها الحالية انتقالًا من جبهة النصرة المحسوبة على القاعدة والمصنّفة في قوائم دولية بأنها "تنظيم إرهابي"، وتتحوّل إلى منظمة جديدة مكوّنة من مجموعات إسلامية مختلفة، لا ترتبط بـ"القاعدة"، بل أعقب ذلك وفي سياق التغييرات الجارية القيام بعمليات تحديث لشخصية زعيم النصرة - الهيئة أبو محمد الجولاني الذي لم يكن يقبل أن يظهر وجهه على الإعلام، إلى شيخ عصري في مظهره ولباسه وانفتاحه وسلوكه في التعامل مع الدبلوماسيين والصحافيين الأجانب.

لم يكن الجهد التركي مع الهيئة خارج سياسات أنقرة السورية. بل كان في صلبها خاصة وأنّ الخطوات جرت في منطقة السيطرة التركية، وكان من المفيد لأنقرة أن يكون لها "ساقان" هناك، "ساق" لصيق ومنفتح وموصول مع المجتمع الدولي ومعترف به وله علاقات مع غالبية القوى الدولية والإقليمية المتدخلة وذات الصلة بالملف السوري، ممثلًا بالائتلاف الوطني الذي يدير -ولو شكليًا - الحكومة السورية المؤقتة، ويتبعها من خلال وزارة الدفاع الجيش الوطني، وهو مجموعة فصائل وتشكيلات مسلّحة، تربطها علاقات مع تركيا. أما "الساق" الثانية، التي تضمن سيرًا تركيًا منتظمًا في الشمال السوري، فكانت "هيئة تحرير الشام – النصرة" (فرع "القاعدة" سابقًا) وزعيمها أبو محمد الجولاني بالصورة الجديدة، والتي ما كان بقدرتها، وبإمكانيات زعيمها إمساك السلطة في إدلب وإدارتها دون موافقة تركيا ومساعدتها.

ويتعدى الغرض التركي فرصة وجود سلطتين مختلفتين في منطقة السيطرة التركية، لكل واحدة سياساتها وروابطها ومصالحها مع أنقرة، وصولًا إلى ما يمكن أن تؤديه من خدمات. فإذا كانت الأولى أكثر قربًا واستجابةً وتفاعلًا مع سياسة تركيا الشائعة والمعروفة في الملف السوري، فإنّ الثانية يمكن أن تلعب أدوارًا جديدة محتملة تناسب أي تغييرات في سياسة تركيا السورية، وهو الوضع الذي كان يمكن أن يحصل لو استجاب نظام الأسد لمبادرة الانفتاح التركي عليه، وكان من الممكن أن تكون "هيئة تحرير الشام" وزعيمها الجولاني في بعض محتويات وتفاصيل ذلك المسار الذي لن يكون غريبًا على الجولاني والهيئة القيام بها حتى لو كانت مصنّفة في إطار "الأعمال القذرة"، وقد عرف السوريون وعاشوا الكثير من سياسات وممارسات الجولاني و"النصرة" في سنوات 2012 وحتى استيلائها على السلطة في إدلب 2017، وبينها الحرب على فصائل "الجيش الحر"، والاستيلاء على مخازن أسلحة أركان "الجيش الحر"، وتنظيم حملات اغتيال قادة وكوادر من العسكريين والمدنيين المحسوبين على الثورة.

أصابع تركيا ليست بعيدة عما يحصل في موضوع الصراعات داخل الهيئة وفي الرفض الشعبي للهيئة وزعيمها

لقد سعت الهيئة في العام الماضي إلى التسلل لمد نفوذها وقواتها إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني بما فيها عفرين وجنديرس، وحصلت صدامات واسعة مع فصائل تابعة للجيش الوطني وتنظيماته، كشفت هشاشة الأخيرة، والتسلل العميق للهيئة في النسيج المدني والعسكري لمناطق سيطرة تركيا، الأمر الذي استدعى تدخلًا تركيًا لوقف المعارك، وإجبار الجولاني على الانسحاب، ولا شك أنّ نتائج مواجهات الهيئة مع الجيش الوطني بين عوامل، دفعت تركيا لتفكير أعمق في العلاقة مع الهيئة وزعيمها خاصة في ضوء انسداد بوابة التطبيع التركي مع نظام الأسد.

بعض المعلومات غير المؤكدة، تربط بين التبدل التركي في النظرة إلى الهيئة والجولاني، وما حدث داخل الهيئة من مشاكل، وترى أنّ أصابع تركيا ليست بعيدة عما حصل ويحصل سواء في موضوع الصراعات داخل الهيئة، أو فيما يظهر من رفض شعبي واسع للهيئة وزعيمها، ودفعهم إلى إطلاق سراح المعتقلين من قيادات وكوادر الهيئة، بينهم أبو ماريا القحطاني، المتهمين بالاتصال والتعامل مع التحالف الدولي، ومما يدعم فكرة التدخل التركي في التطورات المحيطة بالهيئة، قيام الجيش الوطني مؤخرًا بإعلان تجريم أي نشاط عسكري في منطقة انتشاره، يتم خارج صفوف تشكيلاته المعروفة، والهدف الأساسي لهذا الإجراء مواجهة ما يمكن أن يقوم به مقربون من الهيئة سواء كانوا أفرادًا أو جماعات.

وقائع ومجريات الأحداث تؤكد  الميل إلى أنّ الجولاني سوف يختفي من المشهد 

عودة إلى الربط بين تصريحات أردوغان عن الصيف الساخن والمنطقة الآمنة على امتداد الحدود السورية-التركية وما يحدث في منطقة السيطرة التركية شمال غرب سوريا، إنما يؤكد أنّ أنقرة تعيد ترتيب أوراقها هناك بالتوازي مع ترتيبات إقليمية ودولية ذات أثر وصلة بما سيتم القيام به في الصيف الساخن القريب.

وتؤكد خلاصة ما يجري في مناطق السيطرة التركية، أنّ أنقرة وضعت "هيئة تحرير الشام" وزعيمها على طاولة القرار التركي، وأنها تقلب السيناريوهات المحتملة في موضوع مستقبل الهيئة وزعيمها في إدلب وعموم شمال غرب سوريا، وسط ميل تؤكده وقائع ومجريات الأحداث، إلى أنّ الجولاني سوف يختفي من المشهد، ويتم في الغالب إخراجه من المنطقة، أما الهيئة فمرشّحة للبقاء، لكن مع تعديلات جوهرية في قياداتها وبنيتها وسياساتها، لدرجة يمكن معها السؤال عما إذا كان ثمة ما يبقى مشتركًا بين صورتها الحالية، وما ستكون عليه في النسخة الجديدة، التي قد لا تحمل الاسم ذاته.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن