في إعلانه عن إمكانية استئناف محادثات منبر جدة بشأن أزمة الحرب السودانية في 18 أبريل (نيسان) المقبل، قال المبعوث الأميركي الخاص توم بيريلو أول من أمس إن هناك عدداً من العوامل التي تغيرت بما يجعل هذه اللحظة واعدة أكثر للتوصل إلى حل. لكنه وحتى لا يطلق العنان لأي تفاؤل مفرط، سرعان ما أضاف إن فرص النجاح لا تتجاوز 50 في المئة.
هذه اللغة الدبلوماسية التي تجمع بين الشيء ونقيضه، توضح بجلاء أن المهمة لا تزال صعبة، وأن العوامل التي عرقلت الجولات السابقة في منبر جدة لا تزال موجودة، بل قد تكون أصعب مما كانت عليه. فمنذ تعليق المفاوضات في بداية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اجتاحت قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة وارتكبت انتهاكات واسعة لا تزال مستمرة، بينما شهدت العاصمة وبالذات مدينة أمدرمان معارك عنيفة تمكن الجيش خلالها من بسط سيطرته عليها بالكامل تقريباً ما عدا بعض الجيوب القليلة.
وهناك شواهد مصحوبة بتصريحات من قيادة الجيش على أنه يستعد حالياً لتوسيع رقعة مناطق سيطرته في العاصمة القومية وبدء معركة الخرطوم، بينما حشد قوات كبيرة لتحرير ولاية الجزيرة التي يتوقع أن تكون معركتها وشيكة. في المقابل هناك تقارير عن أن قوات الدعم السريع تحشد لشن هجوم على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، بعدما تلقت إمدادات كبيرة من السلاح الآتي من الخارج. هذا التحشيد يوضح أن الأسابيع القليلة المقبلة ستكون لتصعيد عسكري متوقع، أكثر منها لمفاوضات دبلوماسية، ونتائج المعارك المتوقعة سيكون لها تأثير كبير لا على الوضع الميداني فحسب، بل أيضاً على إمكانية استئناف منبر جدة في التوقيت الذي اقترحه المبعوث الأميركي الخاص، وما يمكن بحثه في المفاوضات، والأطراف التي يمكن أن تشارك أو لا تشارك فيها.
هناك أيضاً مشكلة المسار السياسي الذي زادت تعقيداته وتباعدت مواقف أطرافه في ظل الاستقطاب الحاد في المشهد السوداني. وعلى الرغم من أن المبعوث الأميركي عقد لقاءات مكثفة مع الأطراف السياسية المختلفة المتواجدة خارج السودان، إلا أنه لم يشر لا من بعيد أو قريب إلى إمكانية مشاركة المدنيين في منبر جدة، مع أن أطراف تنسيقية القوى المدنية كانت قد طالبت بتمثيلها في المفاوضات. تصريحات بيريلو مقرونة مع مواقف الإدارة الأميركية والكونغرس تشير إلى أن واشنطن تنوي التحرك على ثلاثة محاور هي:
- أولاً، توحيد المنابر والمبادرات المتعددة في منبر واحد هو منبر جدة لأنه الوحيد المتفق عليه، بينما هناك خلافات وتوترات وشكوك بشأن الوساطات الأخرى لا سيما وساطة «إيغاد» التي لا يمكن أن تنجح بأي حال بعد اتهام السودان لبعض دولها بالانحياز إلى الدعم السريع. وتحدث بيريلو عن توحيد المبادرات قائلاً «نحن نفكر في نظرائنا الأفارقة والإقليميين الرئيسيين»، مشيراً إلى احتمال مشاركة مصر ودولة الإمارات. لكنه بدا مدركاً أيضاً للمشاكل التي قد يثيرها هذا التوسيع للمفاوضات والاعتراضات التي قد تصدر بشأنه، إذ أضاف: «ندرك أننا لا نحتاج بالضرورة إلى ألف ممثل هناك، فهذا يمكن أن يخلق الفوضى الخاصة به. نحن نحاول معرفة ما هو المزيج من الجهات الفاعلة والحوافز التي يمكن أن تقود إلى نهاية لهذه الحرب».
- ثانياً، جمعُ طرفي القتال على طاولة المفاوضات، والعمل على نزع العوامل التي تؤجج القتال بما في ذلك وقف التدخلات الخارجية وإمدادات السلاح، وهو ما كررته الإدارة الأميركية في عدة تصريحات وأشار إليه بيريلو أيضاً.
- ثالثاً، التسريع بالمسار الإنساني لضمان وصول المساعدات ومواجهة الوضع المتأزم وبشكل خاص في دارفور ومعسكرات اللاجئين. ولهذا الغرض اقترح بيريلو 18 أبريل (نيسان) المقبل موعداً مقترحاً لاستئناف منبر جدة، بحيث يأتي مباشرة بعد المؤتمر الإنساني الذي تستضيفه فرنسا في 15 أبريل لبحث الوضع الإغاثي لضحايا الحرب في السودان، وتحريك المساعدات بعد التحذيرات المتتالية من الأمم المتحدة بأنها لم تتلقَ سوى 4 في المئة فقط من المساهمات العاجلة التي طلبتها.
بيريلو في شهره الأول في المنصب يبدي حماسة واضحة ومتوقعة لمهمته التي بدأها بجولة إقليمية واسعة ولقاءات متعددة مع الأطراف المدنية السودانية، لكنه حتماً سيكتشف، إن لم يكن قد اكتشف بعد، حجم تعقيدات الأزمة وصعوبة مهمته بسبب ضغط العامل الزمني في سنة الانتخابات الأميركية، وانشغال إدارة بايدن بحربي غزة وأوكرانيا. أضف إلى ذلك أنه يفتقر إلى الخبرة الكافية في الملف السوداني، ومهمته ستكون أصعب في ظل عدم وجود سفارة أميركية في الخرطوم تعينه بعد توزيع طاقم السفارة على عدد من العواصم بعد الحرب. المعين الأكبر لبيريلو هو الكونغرس الذي أبدى اهتماماً متزايداً بالأزمة السودانية في الآونة الأخيرة، وكان السبب في تعيين المبعوث الخاص من خلال الضغط المتواصل على البيت الأبيض، وإصدار قرارات خاصة بالأزمة آخرها الشهر الماضي حينما خطا المشرعون الأميركيون خطوة لافتة بتصنيفهم ممارسات قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها في دارفور بـ«الإبادة الجماعية» الموجهة ضد مجموعات عرقية وقبلية بعينها، وتشبيه ذلك بما حدث في الإقليم في 2003 ودفع إدارة جورج بوش آنذاك إلى فرض عقوبات مع دعوات للمحاسبة وملاحقة المسؤولين عن تلك الجرائم.
الواضح أن واشنطن تريد استخدام المحاسبة والعقوبات للضغط على الأطراف بالتوازي مع التحركات الدبلوماسية التي يقوم بها بيريلو، على أمل أن يدفع ذلك إلى التعجيل بإنهاء الحرب. وقد عبر عن هذا الأمر السناتور بن كاردين رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في مخاطبته للمجلس هذا الأسبوع قائلاً إن أميركا لا يمكن أن تبقى صامتة إزاء ما يجري في السودان، وإن عليها اتخاذ خطوات لإنهاء الحرب، وحث المجتمع الدولي على اتخاذ خطوات عاجلة لمواجهة الوضع الإنساني، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب. هل يكون ذلك كافياً؟ الصورة أعقد من ذلك بكثير، فإدارة بايدن لديها أولويات غير السودان في الوقت الراهن، وعدو بيريلو هو عامل الزمن في موسم الانتخابات الأميركية. أهم من ذلك أن الهوة بين مواقف الأطراف السودانية تبدو أوسع من أي وقت مضى منذ بدء هذه الحرب، والكثير يتوقف على ما سيحدث على الجبهة العسكرية في الأسابيع وربما الأيام القادمة.
(الشرق الأوسط)