لكن منذ البداية شكّلت العلاقات الجزائرية-المغربية واحدة من أهم العُقَد التي حالت دون تفعيل مؤسسات الاتحاد المغاربي أو قيامه بأي دور، رغم كثرة التحديات التي واجهها إقليم المغرب العربي خصوصًا منذ ٢٠١٠.
وفي واقع الأمر فإنه رغم كثرة التعقيدات التي كانت تكتنف بعض العلاقات الثنائية العربية كالعلاقات السورية-العراقية، أو العراقية-الكويتية، أو السورية-اللبنانية، أو السعودية-القطرية، إلا أنّ العلاقات بين الجزائر والمغرب تظّل هي الأكثر تعقيدًا على الإطلاق لأنها تجمع أكبر عدد من التناقضات الممكنة، كما أنها وصلَت في لحظة معينة إلى مرحلة الصراع المسلّح.
مؤشّرات تفيد بسعي الجزائر إلى تنشيط أو إعادة تشكيل اتحاد المغرب العربي لكن بعد استبعاد المغرب منه
وهكذا أخذَت العلاقات الجزائرية-المغربية تدور في إطار الفعل ورد الفعل، تساند الجزائر جبهة تحرير البوليساريو من منطلق احترام حق الشعوب في تحرير مصيرها وتعترف بما يُسّمى بالجمهورية الصحراوية، فترّد المغرب بدعم حق تقرير المصير لـ"شعب القبائل الشجاع"، وهذا النوع بالذات من الفعل وردّ الفعل يُعّد هو الأخطر على الإطلاق لأنه يتلاعب بالوحدة الترابية والنسيج الاجتماعي لكلتا الدولتين، وهو سلاح ذو حدّين.
وتحت هذا العنوان نفسه يدخل قيام الجزائر بالإعلان عن إنشاء مكتب لما سمّي بجمهورية الريف على أراضيها، وهذا إجراء نُظِر له مغربيًا على أساس أنه تشجيع النزعات الانفصالية في منطقة الريف، خاصةً أنّ هناك جذورًا لنشأة مثل هذا الكيان ارتبطَت بمكافحة الاستعمار الأسباني في النصف الأول من القرن العشرين.
مع وصول الرئيس عبد المجيد تبّون إلى السلطة في ديسمبر/كانون أول ٢٠١٩ أولى اهتمامًا لتنشيط السياسة الخارجية الجزائرية عمومًا وفي محيطها الأفريقي والمغاربي خصوصًا، وجاء ذلك بعد فترة من الركود ميّزت الدور الخارجي للجزائر نتيجة الظروف الصحية للرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة.
والفكرة التي يثيرها هذا المقال هي أننا عندما نحلّل الأداء الجزائري على الصعيد المغاربي يمكن أن نلمس بعض المؤشّرات التي تفيد بسعي الجزائر إلى تنشيط أو إعادة تشكيل اتحاد المغرب العربي من جديد لكن بعد استبعاد المغرب منه.
ومن بين المؤشّرات التي يمكن ذكرها في هذا الخصوص استحداث آلية جزائرية-تونسية-ليبية على مستوى القمة تنعقد بشكل ربع سنوي للبحث في سبل تعزيز العلاقات بين الدول الثلاث. وقد انبثَقت هذه الآلية أثناء القمة السابعة للغاز التي استضافتها الجزائر، عبر لقاء عبد المجيد تبّون وقيس سعيد ومحمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الليبي.
وإذا كانت هذه الآلية لم تلتئم حتى الآن إلا على هذا المستوى الثلاثي، إلا أنّ السياسي الجزائري المحنّك عبد القادر بن قرينة رئيس حركة البناء الوطني (ذات التوجّه الإسلامي) تحدّث عن إحياء مشروع اتحاد المغرب العربي وبَعْث مؤسساته، والأهم من ذلك قوله"إيجاد صيغ جديدة لتفعيله". ما نفهم منه أنّ هناك تفكيرًا في إعادة هيكلة اتحاد المغرب العربي ليصير اتحادًا رباعيًا لا خماسيًا.
المؤشّر الثاني؛ هو الاشتباك بقوة مع القضايا المغاربية، وعلى رأسها القضية الليبية بحكم طول الحدود البريّة بين الدولتين والحاجة لضبطها. وفي هذا السياق عرَضَت الجزائر منذ البداية القيام بدور الوساطة لتحقيق المصالحة الوطنية بين الفرقاء الليبيين، وحافظَت قدر الإمكان على علاقة متوازنة مع هؤلاء الفرقاء، وتردّد عليها بالفعل بعضهم أكثر من مرة للتشاور وتبادُل الرأي، وعرَضَت أن تستضيف مؤتمرًا دوليًا للبحث في معضلة إجراء الانتخابات الرئاسية، ونسّقت موقفها مع مواقف بعض أهم القوى الإقليمية والدولية فضلًا عن الاتحاد الأفريقي وآلية دول جوار ليبيا.. إلخ.
المؤشّر الثالث؛ هو الارتباط بشبكة من العلاقات التجارية والاقتصادية الوثيقة مع الدول الثلاث، وهنا فإن التطوّر الكبير الذي شهدته العلاقات الجزائرية-الموريتانية بالذات على مدار السنوات القليلة الماضية يُعّد نموذجًا بالغ الدلالة ويحقّق للجزائر أكثر من فائدة. إحداها الحلول محّل المغرب في تلبية احتياجات السوق الموريتانية من السلع والخدمات، والأخرى الوصول إلى المحيط الأطلسي وأسواق دول غرب أفريقيا، وأخيرًا تعزيز فكرة الاتحاد المغربي في شكله الجديد من خلال خلق مصالح متبادلة لأطرافه في إعادة بعثه وإحيائه.
وإذا كان كلُ من نواكشوط والجزائر قد أعلنا في مطلع العام الحالي عن إنشاء منطقة للتجارة الحرّة بين البلدين، فإنّ هذا التطوّر يُعّد هو الأحدث على طريق توثيق العلاقات الجزائرية-الموريتانية، وإن تكن سبقته عدة خطوات لتشغيل المعابر البريّة وتسيير الرحلات البحرية وتوقيع العشرات من اتفاقيات التعاون التي تغطّي مروحة واسعة من المجالات.
من التجاوز القول إنّ ليبيا وموريتانيا وتونس تبحث عن اتحاد مغاربي جديد لا يشارك فيه المغرب
إلى أي مدى يمكن أن تنجح الجزائر في مسعاها لبناء اتحاد مغاربي يخلو من المغرب؟.. المسألة ليست سهلة لأنّ دولة مثل موريتانيا تربطها علاقات جيدة مع المغرب، وهي قد ترحّب بتطوير علاقتها مع الجزائر من منظور مصلحتها الوطنية، لكنها لا ترغب في أن تجد نفسها محشورة في النزاع الجزائري-المغربي المعقّد. كما أنّ دولة مثل ليبيا كان للمغرب دور أساسي في رسم خارطة طريقها السياسية - اتفاق الصخيرات في عام ٢٠١٥ ومحادثات بوزنيقة في عام ٢٠٢٠ - أي أنّ لها أدواتها للتأثير في الداخل الليبي. ومع أنّ علاقة تونس بالمغرب اضطرَبت منذ أغسطس/آب ٢٠٢٢ عندما استقبل الرئيس قيس سعيد رئيس جبهة البوليساريو ما ترتّب على ذلك من سحب سفيرّي البلدين، إلا أنّ الموقف التونسي الرسمي على الأقل لا زال يعلن التزام الحياد في هذه القضية.
والخلاصة أنّ ما نراه من تحركات بين الدول الأربع يصّب في إطار توطيد علاقاتها البينية لكن من التجاوز القول إنّ ليبيا وموريتانيا وتونس تبحث عن اتحاد مغاربي جديد لا يشارك فيه المغرب.
(خاص "عروبة 22")