كتبتُ في "الأهرام" في ٧ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي منبّهًا أصحاب المنطق الاستعماري من الصهاينة وحلفائهم إلى أنّ الوقت ما زال مبكرًا للغاية للحديث عن "اليوم التالي" ومستقبل غزّة كما يريدون له أن يكون ذليلًا خاضعًا لإسرائيل وبالذات غلاة متطرفيها.
وعندما تُنشر هذه الكلمات يكون إتمام "طوفان الأقصى" نصف السنة عمرًا قد اقترب كثيرًا، ليكون الطوفان هو أطول الحروب العربية-الإسرائيلية بعد حرب نشأة الدولة الغاصبة، ومن يدري فقد يتجاوزها، فالمعركة ما زالت على أشدها، بل إنّ أيّ مراقب موضوعي للأحداث - بما في ذلك محللون إسرائيليون سياسيون وإعلاميون وعسكريون - يرصد الورطة الحالية لإسرائيل وقيادتها المتعجرفة بعد أن غرزت أقدامها في مستنقع عملياتها القذرة في غزّة دون أن تحقق شيئًا من أهدافها الاستراتيجية المعلنة، فلا هي نجحت في اجتثاث المقاومة - بل لقد عادت للأماكن التي دنستها القوات الإسرائيلية وادعت أنها طهرتها من المقاتلين - ولا هي نجحت في تحرير أسراها إلا بالتفاوض مع "حماس" لإطلاق سراح بعضهم، ناهيك باستمرار تماسك سلطة "حماس" في غزّة، واستمرار التأييد الشعبي الواسع لها، بل زيادته وفقًا لآخر استطلاعات الرأي في غزّة.
عدم اقتحام إسرائيل لرفح حتى الآن لا يرجع لضغوط أمريكية زائفة وإنما لصعوبة المهمة
وأعتقد أنّ أبرز الأمثلة على الورطة الإسرائيلية الحالية هو ما يُسَمَّى بعملية رفح، فنتنياهو لا يفتأ - منذ حشر معظم أهل غزّة في هذه المدينة الصغيرة الصامدة - يردد كالببغاء الذي لا يفهم شيئًا مما ينطق به أنّ عملية رفح واقعة لا محالة بغض النظر عن قدوم رمضان أو الضغوط الدولية، ومع ذلك فالكل يُلاحظ أنه لا يقدم عليها حتى الآن، بل ولا يُظْهِر أي تحركات لإجلاء سكانها، والتفسير الوحيد لهذا هو أنه لا بد وأن يكون ثمة عاقل وحيد في مساعديه السياسيين والعسكريين يلفته إلى خطورة المغامرة - أو بالأحرى المقامرة - التي سيُقْدِم عليها إن جرؤ على اقتحام رفح بريًا، فكل ما تحمله من خسائر عسكرية وبشرية وسياسية واقتصادية في عمليته الانتقامية في غزّة سيكون في جانب، وخسائر اقتحام رفح ستكون في جانب آخر، ولا يحتمل الوضع العسكري والسياسي والاقتصادي الراهن في إسرائيل مزيدًا من الخسائر على كل الأصعدة، ولذلك يجب أن يكون واضحًا أنّ عدم اقتحام إسرائيل لرفح حتى الآن لا يرجع لأي اعتبارات إنسانية، أو لضغوط أمريكية زائفة، وإنما لصعوبة المهمة على إسرائيل، وما يمكن أن يترتب عليها من كوارث جديدة، ومزيد من الانقسام والتفكك داخليًا، والضغوط والعزلة خارجيًا، وحتى لو تهيّأ لها أنها كسبت المعركة العسكرية في رفح كما تهيّأ لها من قبل أنها حسمت الوضع في الشمال والوسط فسرعان ما سوف تكتشف تفاقم ورطتها على نحو قد يضع نهاية لحكومتها الحالية وللعملية برمتها.
ولعل نتنياهو يمر الآن بالمرحلة ذاتها التي مرّ بها قادة الجمهورية الرابعة في فرنسا قبل مجيء ديجول للحكم إبان حرب التحرير الجزائرية، وقادة النظام الفاشي في البرتغال في ذروة حركات التحرير في المستعمرات البرتغالية في أفريقيا قبل انقلاب ١٩٧٤، وقادة النظم العنصرية في أفريقيا الجنوبية قبل تفكيك هذه النظم.
على أنّ هذا اليقين التاريخي بانتصار الشعب الفلسطيني ومقاومته، وهو يقين مدعوم بخبرة حركات التحرر الوطني كافة بعد الحرب العالمية الثانية، يجب أن لا يصرفنا عمّا يُحاك لغزّة الآن، فصحيح أنّ المقاومة لم ولن تُهزم بإذن الله رغم التكلفة الباهظة حتى ولو خسرت معركة، غير أنّ إسرائيل، ومَن وراءها، تعمل بجدية فائقة في قتل أهل غزّة، وقد تجاوز شهداؤهم حاجز الـ٣٢ ألفًا ومصابوهم حاجز الـ٧٠ ألفًا وجريمة الإبادة الجماعية مستمرة، فضلًا عن حديث التهجير القسري أو الطوعي والمحاولات المستميتة لوضعه موضع التنفيذ، وتعمل كذلك على تدمير مقومات الحياة في غزّة، وقد نجحت بالفعل في تدمير ثلثي مساكنها، ومعظم بنيتها التحتية، ومؤسساتها التعليمية والصحية والسياسية والدينية ومعالمها التراثية لكي تستحيل الحياة فيها بعد الحرب، وتعمل الآن مع حليفتها الكبرى على التلاعب بجغرافية غزّة بشق طرق تسهل سيطرتها، ومحاولة إنشاء منطقة عازلة فيها، ناهيك بمشروع الرصيف البحري المشبوه جملة وتفصيلًا.
الوحدة الوطنية هي السبيل الوحيد والمضمون لحماية أهداف النضال الفلسطيني وتحقيقها
لن تجدي كل هذه المحاولات في إنقاذ الاستعمار الصهيوني لفلسطين من مصيره المحتوم ولو بعد حين، لكننا لا ينبغي أن نستخف بتداعيات هذه الأعمال الإسرائيلية الممنهجة في غزّة على تعويق مهمة التحرير في فلسطين، كما هو حاصل الآن في الضفة بالنسبة لتداعيات تغول الاستيطان فيها على حل الدولتين، ولا أرى للأسف اهتمامًا عربيًا رسميًا بهذه المخاطر ولا أتوقعه، ولذلك فقد آن لقوى الشعب الفلسطيني السياسية وفصائله المقاومة أن ترتفع إلى المستوى المطلوب لإنجاز وحدتها الوطنية، فهي السبيل الوحيد والمضمون لحماية أهداف النضال الفلسطيني وتحقيقها بدلًا من التراشق بالاتهامات في غير موضعه، وفي توقيت بالغ الخطورة لمستقبل فلسطين.
(خاص "عروبة 22")