يحضر هذا السؤال بإلحاح مع الأزمة الأخيرة بين رئاسة الجمهورية ومقام البطريركية الكلدانية العراقية المسيحية. وهو سؤال لو وُجد تصنيف عمومي ما له، لكان جديراً به أن يكون «سؤالاً سيادياً» متعلقاً بالأمن القومي للعراق، مطابقاً لتلك المعايير التعريفية والتأسيسية للدولة والسلطة والمؤسسات في العراق الحديث التي سكها العراقيون في مقدمة دستورهم، والتي تحدد الأهداف والرؤى والمسارات التي يريدها ويحددها الدستور لكل سلطة ومؤسسة حاكمة في البلاد، كالديمقراطية والمدنية والاتحادية/الفيدرالية، والالتزام بالقيم العالمية ومنظومة حقوق الإنسان، ويعتبر المس بها تحطيماً لبنية العراق نفسه، فالمسيحيون وحضورهم جزء تأسيسي من جوهر الدولة العراقية الحديثة وأمنها القومي وسلامها الداخلي والإقليمي.
فمثل تلك المضامين بالضبط، كان المسيحيون، ولا يزالون، قيمة سياسية واجتماعية وثقافية وتنموية وروحية مضافة للعراق، كل العراق. وتالياً، فإن كل مؤسسة أو سلطة عراقية، أياً كان موقعها ومستوى نفوذها، من المفترض أن تحافظ على هذا الحضور المسيحي، لصالح المسيحيين وخدمة لهم أولاً، بوصفهم مواطنين عراقيين يملكون هذا الحق حسب الدستور، واعتباراً لقيمتهم المضافة التي لم تكن يوماً إلا لصالح العراق.
فالمسيحيون العراقيون ليسوا مجرد رقمٍ ديموغرافي أو أقلية سكانية، يشغلون مساحة هامشية من الإنتاج والحياة العامة والحراك الكلي للشعب العراقي. بل كانوا الديناميكية الأكثر حيوية وقدرة على المبادرة والعطاء وإحداث التغيير والتراكم ضمن الفضاء العراقي، ولصالحه.
في هذا المنحى، فإن اندفاع أي سلطة عراقية لإدخال المسيحيين ومؤسساتهم ونخبهم العليا في دوامة الصراعات البينية، وحسب بعض الحسابات قصيرة النظر وضئيلة الحكمة، إنما سيؤدي في المحصلة إلى خسارة العراق لمزيد من ثروته المجتمعية وطاقته التنموية، من دون أي عائد ذي قيمة راهناً، وبالذات مستقبلاً.
فقد العراق خلال السنوات الماضية الكثير من مسيحييه، بسبب موجة العنف الأهلي الداخلية، وفشل مؤسساتنا الأمنية والسيادية في حماية مواطنيها، وتركهم لبراثن الإرهاب الأرعن. وبذا صارت مهمة الإبقاء على ما بقي من المسيحيين، حضورهم الديموغرافي ودورهم المجتمعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، واجباً وطنياً أعلى، تقيس به وحسبه كل مؤسسات وسلطات البلاد سلوكياتها واستراتيجيتها العليا.
بناء العراق الحديث لم يكن مجرد تبديل في رأس الحكم، بل كان تغييراً جوهرياً في هوية الكيان وشكل علاقته مع مجتمعه الداخلي قبل كل شيء. فكما تبدل العراق من دولة شمولية عسكرية قمعية تتاجر وتستخدم الدين في سبيل تأبيد سلطة الحاكمين، فإن العراق الجديد من المفترض أن يكون على التضاد مع ذلك كله، بلداً ديمقراطياً مدنياً اتحادياً، فسيح الروح ومبنياً على سلطات تتقصد على الدوام خدمة المجتمع وحماية تنوعه بكل ثمن، لا دفعاً لمكوناته الأكثر حيوية نحو القسر والدخول في مكاسرة سياسية لا طائل منها، ولا نتيجة، إلا خلق الكثير من القلق وسوء الثقة والأمان من قِبلهم بالدولة ومؤسساتها وسلطاتها.
لا يمكن لكل مؤسسات السلطة في العراق، التشريعية والتنفيذية والقضائية على حدٍّ سواء، أن تفعل وتحقق ذلك الشرط إلا عبر الالتزام بآليتين محددتين: التمييز الإيجابي تجاه المكونات الأهلية «الأقل عدداً»، عبر منحهم المزيد من الحضور وإشعارهم بالمساواة والجدارة مع باقي المكونات. وإلى جانبها الحياد عن شؤونهم الداخلية، بالذات تلك القضايا غير المتداخلة والمؤثرة على الفضاء العام، مثل الشؤون الكنسية والوقفية، وتركها لأبناء المكونات ومؤسساتهم التقليدية/التاريخية. تلك المؤسسات التي بقيت وحافظت على نفسها طوال قرون كثيرة، بسبب الثقة والروابط الوجدانية الممنوحة لها من هذه المكونات العراقية.
في تطبيق السلطات والمؤسسات العراقية لهذين الشرطين، فإنها ستخلق من العراق دولة تشاركية، لا يسمح فيها لأي طرف أو مكون أن يفرض رأيه وسطوته على مكونٍ آخر، عبر أي مغالبة، ولو كانت مغالبة مبنية على نوع من القوة المتأتية من أغلبية ما، بما في ذلك الأغلبية السلطوية أو البرلمانية. كذلك فإنها ستعني أن كل سلطة في البلاد، مهما كانت، إنما هي سلطة محدودة المجال والقوة، مضبوطة بالقانون وخاضعة له، وثمة سلطات ما أخرى، داخلية بالذات، لا يمكن لأي طرف كان أن يطالها، فهي من حق مَن منحها السلطة فحسب، أي أبناء المكون وثقتهم بمؤسستهم الكنسية.
هذه الشروط الجوهرية ليست فرضاً على العراق أو تقليصاً من سيادته العمومية، بل هي قيمة مضافة له. فالمسيحيون، مثل العديد من المكونات الأهلية التي فقدها العراق بالتتالي خلال تاريخه المعاصر، هم الأداة والتعبير عن عافية العراق وقدرته على بناء سلامه المجتمعي الداخلي وتنميته البشرية المستدامة.
ليس في الأمر أي دفاع عن مؤسسة أو شخصية عامة مسيحية، أو مناهضة لأخرى، بل هو دفاع عن المسيحيين العراقيين أنفسهم، وتالياً عن العراق. فالسياق التقليدي الذي اعتمدته السلطات والمؤسسات العراقية طوال السنوات الماضية إزاء المسيحيين، سيأتي على آخر وكل ما بقي لهم من حضور ودور وإنتاجية. تُرك المسيحيون لبراثن الإرهاب، ومن ثم حرموا من أي مساواة دستورية أو قانونية مع غيرهم من المواطنين العراقيين، مروراً بتجاهل مطالبهم بإعادة الاعتبار وتشييد قلاع الحماية لهم، وتقليص حضورهم البرلماني والحكومي وتعكيرهما حسب بعض الحسابات والمحاصصات الضيقة، ثم التدخل في شؤونهم ومؤسساتهم الأكثر خصوصية وحيوية.
يُقال ذلك، وفي البال كل تاريخ العراق المعاصر، بالذات تاريخ عواصم مدنيته وحداثته، بغداد والبصرة وأربيل والموصل، والأدوار التي لعبها المسيحيون منذ تأسيس الدولة العراقية في تحقيق كل أنساق وصور حداثة ومدنية هذه الحواضر، والأمثلة أكثر وأكبر من أن تُذكر بأي كتابة.
كشخص عاش سنوات طويلة من عمره في كل تلك المناطق العراقية، رافق وشهد وعاش تجربة المسيحيين وأدوارهم تلك، استشعر كل أشكال القلق التي تحيط بالمسيحيين العراقيين. أُفضّل أن تكون رؤية وتوجهات كل السياسيين والقادة العراقيين أكبر من مجرد حسابات تفصيلية وضيقة تُفقد العراق واحداً من أكثر ثرواته قيمة ومعنى.
(الشرق الأوسط)