في مقال الأسبوع الماضي تكلمنا عما نعتقده أحد أهم المخارج من الوضع العربي المريض الحالي وهو شعار الوحدة العربية في المشروع النهضوي العربي. وأكدنا بأنه دون نوع من الوحدة العربية سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، مواجهة الاستعمارين الغربي والصهيوني، والتخلف الاقتصادي والمعرفي والتكنولوجي، أو بناء الأمن القومي والوطني في كثير من مجالات المعيشة الحياتية.
اليوم نود الإشارة إلى الشعار الثاني، البالغ الأهمية وإن لم يكن وجوديا مثل شعار الوحدة العربية، الذي يطرحه المشروع النهضوي العربي كأحد المداخل التي أهملت في الفكر القومي سابقا وآن أوان طرحه بقوة والتمسّك بمساراته: إنه شعار الديمقراطية.
إن الحلقة الجهنمّية التي تبدأ بالاستبداد السياسي الفاسد وتنتهي بخراب الاقتصاد والعمران، وتدور حول نفسها عبر حقب كثيرة من تاريخنا، والحاجة الملحّة لكسر تلك الحلقة في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية الأخلاقية، تحتّم أن يوضع الشعار الديمقراطي في قمة الأولويات، وأن يتوقف البعض عن التلاعب بهذه المبرّرات المتوهمة أو تلك لتأجيل الانتقال العربي إلى الديمقراطية الحقّة، غير المظهرية أو المزيّفة أو المفروضة من الخارج مؤقتا.
لا نحتاج إلى التذكير بأن أفدح الأخطاء قد ارتُكبت بسبب اتخاذ قرارات فردية من قبل هذا القائد أو ذاك، وبأن أفضل الفرص للتحرر وللتوحيد العربي في شتى المجالات قد ضاعت بسبب جهالة أو أنانية هذا الرئيس أو ذاك. وحتى المحاولات العديدة لإجراء إصلاحات داخلية في هذا القطر أو ذاك تعثرت بسبب غياب المشاركة الشعبية المدنية المستقلة والشفافية والمحاسبة التي تفرضها مبادئ وأنظمة الديمقراطية وتغيب أو تتشوّه عند غيابها.
من الضروري التأكيد على أننا لا نتكلم عن ديمقراطية مختزلة في خطوات متواضعة من مثل مجالس شورى أو انتخابات دورية بمثالب كثيرة وإنما نتكلم عن سيرورة تحكمها عناوين الكرامة والحرية الإنسانية، وعدالة توزيع الثروة والسلطة، والاحتكام إلى موازين قانونية أخلاقية.
نحن هنا نتكلم عن ديمقراطية لا كما تطرحها الحضارة الغربية وتحصرها إلى حدود كبيرة في الجانب السياسي، وتسمح أن تتلاعب بها جهات المال والثروة والإعلام وشتّى جهات الدولة العميقة، وإنما كديمقراطية ثورية تغييرية تحررية، روحها العدالة والإنصاف والأخوة الإنسانية والتراحم، توازن إلى أبعد الحدود بين حقوق ومسؤوليات الفرد وحقوق ومسؤوليات الجماعة. وهي حتما ترفض الفلسفة السياسية المكيافيلية التي تأثرت بها الديمقراطية التي تنادي بها حضارة الغرب المهيمنة، وترفض التوحش الأناني الذي تنادي به الرأسمالية النيوليبرالية العولمية.
سيقول البعض إنها طوباوية بعيدة عن الواقع وسنردّ بأنه آن الأوان لهذا العالم أن يتوقف عن الحلول الوسط الانتهازية في القضايا الإنسانية الحقوقية والأخلاقية الكبرى، وأن يتعلم من جوانب البؤس في مسيرة التاريخ الإنساني.
في الآونة الأخيرة تبيّن أن تركيز الثروة الهائلة في أياد قليلة وتقلّص حجم الطبقة الوسطى وتركز الفقر في نسب متزايدة من السكان قد قاد، حتى في أكثر الديمقراطيات تطورا، إلى ازدياد المثالب والتشوّهات والتراجعات في الأنظمة الديمقراطية. وفي الغرب الديمقراطي تجري مراجعة متعاظمة لتاريخ وحاضر ومستقبل ديمقراطيتهم.
عندما ننادي بأهمية الممارسة الديمقراطية في كل مؤسسات أنظمة الحكم فإننا يجب أن لا ننسى ممارستها في مؤسسات المجتمع المدني، وعلى الأخص في أحزابها ومنظماتها المهنية والأهلية. ولعل غياب الديمقراطية في تنظيم الحياة الحزبية العربية كان واحدا من أهم الأسباب التي قادت إلى نجاح الهيمنة الدكتاتورية في الحياة السياسية لأنظمة الحكم العربية.
وأخيرا، يهمنا التركيز على أن الحراك الجماهيري العربي للانتقال إلى الأنظمة الديموقراطية تلك يجب أن يراعي المنطلقات الأربعة التالية: أولا، الرفض القاطع لأي طرح فئوي سواء أكان طائفيا مذهبيا أم دينيا أم قبليا أم مناطقيا. وثانيا، عدم الالتفات إلى رضا أو غضب الخارج سواء أكان مباركا أم معارضا. وثالثا، التشبّث بالنضال السلمي مهما كانت الاستفزازات التي يواجهها هذا النضال. ورابعا، العمل دوما على أن تكون المطالب وطنية مشتركة حتى ينتهي هذا النضال أو الحراك الجماهيري ملكا للغالبية السّاحقة من أفراد الشعب.
في جميع الأحوال فإنه ما لم تكن الحراكات الجماهيرية من أجل الديمقراطية حركة قومية متناسقة ومتعاونة وداعمة لبعضها البعض، فإنها ستواجه انتكاسات هائلة، كما شاهدناها في حراكات ما أمل أن يكون ربيعا عربيا.
("الشروق") المصرية