وجهات نظر

"النظريات الاجتماعية" التي غيّرها العدوان الإسرائيلي

مع عصور النهضة والتنوير صعدت الأفكار الليبرالية وقيم المساواة بين الشعوب والأعراق والأديان، وأصبح كثير منا في الشرق والغرب لا يرى أنّ هناك مشكلة هيكلية أو بنيوية في ثقافة شعب أو مجتمع من المجتمعات، فكل الشعوب قادرة في ظل سياق اجتماعي وسياسي بعينه أن تتقدّم وتبني مجتمعًا حديثًا يؤمن بالديمقراطية والمساواة، وإذا وجدت عيوب في شعب فيكون التعبير المستخدم أنها عيوب في المجتمع وليس الشعب، لأنّ الأول لا يعني وجود عيب وراثي أو بنيوي إنما يعني أنّ هذا المجتمع نتاج تفاعل بين قيم وثقافة شعب وبين السياق السياسي الذي يعيش فيه والذي بسببه قد ينتج مجتمع متقدّم وديمقراطي وآخر اتكالي سلبي متعايش مع الاستبداد.

الحقيقة أنّ كثيرًا من النظريات الاجتماعية التي عرفتها مختبرات العلم والجامعات والمراكز الأكاديمية انطلقت من فكرة أنّ المجتمعات كلّها تتحوّل وتتقدّم ورفضت النظريات الاستشراقية التي راجت في القرون السابقة على القرن العشرين، و"شرقنت الشرق" بتعبير إدوارد سعيد أي نظرت إليه باعتباره كيانًا ساكنًا لا يتغيّر أو غير قابل للتحوّل والتطوّر، وهو ما ثبت عمليًا أنه غير صحيح بصرف النظر عن شكل ونتائج هذا التحوّل إلا أنه بالتأكيد قد حدث.

"الهيستريا" الإسرائيلية في ممارسة الانتقام وقتل المدنيين من الصعب أن نجدها في تجارب بلدان استعمارية أخرى

والحقيقة أنّ المجتمع الإسرائيلي ومنظومة حكمه المتطرفة أعادت النظر في النظريات الاجتماعية التي رفضت الحديث عن "المشكلات البنيوية" لمجتمع من المجتمعات، وكانت في صالح تقدّم مجتمعاتنا وباقي شعوب العالم، حتى لو كرّس عكسها كثير من المستبدين العرب وروّجوا مثل كثير من المستشرقين أنّ العيب في الشعوب وأننا "نحب الاستبداد" (الاستبداد الشرقي) وغيرها من هذه المفاهيم.

والحقيقة أنّ دعم الغالبية الساحقة من المجتمع الإسرائيلي لهذا العدوان الغاشم على قطاع غزّة فتح الباب أمام مراجعة كثير من النظريات الاجتماعية التي رفضت أن تعتبر أنّ هناك عيوبًا هيكلية في بنية المجتمعات مرتبطة بجوهر ثقافتها ومنظومة قيمها وركّزت على السياق السياسي والاجتماعي القادر على تغيير هذه المجتمعات نحو قيم حداثية أكثر تقدّمًا وإيمانًا بالمساواة.

يقينًا حالة "الهيستريا" الإسرائيلية في ممارسة الانتقام وقتل المدنيين من الصعب أن نجدها في تجارب بلدان استعمارية أخرى، كما أنّ خطاب النخبة الإسرائيلية في الداخل والخارج لا يحرّض فقط على الكراهية والعنصرية، إنما يعطي غطاءً سياسيًا لجرائم الإبادة الجماعية وقتل المدنيين والأطفال بشكل متعمّد، وأنّ هذا الخطاب بات مدعومًا من الغالبية العظمى من المجتمع الإسرائيلي، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الحروب الاستعمارية الحديثة حيث اختار مجتمع ومنظومة قيم الإبادة الجماعية والقتل والتهجير كحل للقضية الفلسطينية، وأصبح بذلك كأنه جزء من حروب ما قبل الميلاد أو بعض حروب القرون الوسطى التي طُرحت فيها مثل هذه الأفكار والممارسات.

والحقيقة أنّ حروب الدول الاستعمارية الحديثة والمعاصرة لم تقم على الإبادة الجماعية إنما على أساس سياسي واستراتيجي واقتصادي وثقافي، مثلما فعل الاستعمار البريطاني الذي احتل دولًا كثيرة منها مصر من أجل السيطرة على طرق ملاحة حيوية، أو من أجل استغلال اقتصادي وهيمنة سياسية ولم يقل إنه جاء لإبادة الشعب المصري أو الهندي، وحتى الاستعمار الفرنسي الذي ارتكب جرائم مخزية في الجزائر حين جاء لمصر مع حملة نابليون حمل رسالة ثقافية مع جيوشه الاستعمارية، ثم حاول أن يضم بالقوة المسلحة بلدًا عربيًا إسلاميًا وهو الجزائر وروّج لمقولة "الجزائر فرنسية" وحاول ضمها بالقوة لفرنسا، أما الاستعمار الإسرائيلي فهو لا يرغب في ضم الضفة أو قطاع غزّة لإسرائيل، ويرفض السماح بقيام دولة فلسطينية مستقله مثلما انتهى الحال مع كل التجارب الاستعمارية من الجزائر إلى جنوب أفريقيا ومن العراق إلى أفغانستان، إنما هدفه قتل وتهجير شعب، وهو نمط نادر في تجارب الاحتلال التاريخية أن يكون الهدف هو إبادة شعب آخر وليس حتى استغلاله اقتصاديًا وسياسيًا.

لم نسمع مسؤول سياسي أو عسكري أمريكي أثناء غزو العراق أو أفغانستان يقول إنه ينوي إلقاء قنبلة نووية على الشعبيين ولا وصفهم بأنهم حيوانات بشرية ولم يحرّض المجتمع في التجارب الاستعمارية المعاصرة على الإبادة الجماعية إلا في حالة إسرائيل.

المجتمع الإسرائيلي مريض بأزمة هيكلية في بنية ثقافته ومنظومة قيمه

فكل من يتابع تصريحات النخب الإسرائيلية من كل الاتجاهات سيرى حجم التحريض على القتل والإبادة الجماعية، وبدا أنّ المشكلة متجذرة في بنية المجتمع الإسرائيلي لأسباب هيكلية تتعلق بالنشأة التي قامت من الأساس على نفي الآخر والعمل على إزالته من الوجود وهي مسألة لم تحدث حتى في جنوب أفريقيا حيث بقيت الغالبية السمراء في بلادها، حتى لو حُرمت من حقوقها السياسية ومورس بحقها تمييز عنصري بغيض.

المجتمع الإسرائيلي في اللحظة الحالية مريض بأزمة هيكلية في بنية ثقافته ومنظومة قيمه. صحيح أنّ تواطؤ العالم الغربي مع إسرائيل واعتبارها دولة محصّنة فوق القانون الدولي والمحاسبة عزّز من هذه الأزمة الهيكلية.

السلوك العدواني الإسرائيلي على "أهل غزّة" فتح الباب أمام إعادة الاعتبار لنظريات اجتماعية لم تكن محببة لدى كثير منا شرقًا وغربًا وتتعلق بالعيوب الهيكلية في بنية مجتمع من المجتمعات لأنهم تبنوا لفترات طويلة النظريات الاجتماعية التي تراهن دائمًا على قدرة السياق السياسي ودولة القانون والديمقراطية على مواجهة عيوب المجتمع وتصحيحها، ولكن ما جرى في إسرائيل العكس، فمنظومة القيم العدوانية المرتبطة بنشأة الدولة العبرية هي التي طوعت مبادئ الديمقراطية ودولة القانون لصالح تكريس التمييز بين اليهود والعرب والتحريض على جرائم الإبادة الجماعية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن