لأسباب وطنية وقومية، تاريخية وجغرافية وديموغرافية واستراتيجية، يعد الأردن القضية الفلسطينية قضيته المركزية الأولى، وأن قيام الدولة الفلسطينية هو مصلحة وأولوية أردنية، لكنه، وفي الوقت الذي يتبنى فيه هذا الموقف على الملأ، فإنه لا يقبل شهادة حسن سلوك من أحد، لا من الداخل ولا من الخارج. وثمة من حاولوا لعب هذا الدور على مدى عقود، ولا يزالون.
في تعاملها مع الأحداث الجارية، ليس في غزة فقط، بل في الضفة الغربية، عملت الدبلوماسية الأردنية التي قادها الملك عبد الله الثاني شخصياً على وضع الأسرة الدولية والرأي العام العالمي في الصورة الحقيقية ونقض الرواية الإسرائيلية للأحداث.
فأحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ليست السبب في ما يجري، بل هي نتيجة الاحتلال والحصار والظلم الذي تمارسه إسرائيل، ويصمت عنه المجتمع الدولي منذ ما يزيد على 7 عقود. ومن هذا المنطق فهو يدين ويطالب العالم بإدانة المجازر الإسرائيلية وسياسات العقاب الجماعي والإبادة، ويرفض دعوات إسرائيل وداعمي حكومتها اليمينية المتطرفة لإدانة المقاومة الفلسطينية.
والأردن أول من تنبه إلى تأثير حكومة بنيامين نتنياهو في موقف الإدارة الأميركية في اليوم التالي للهجمات وخططها لتهجير المواطنين الفلسطينيين من قطاع غزة بحجة استهداف المقاومة وحماية المدنيين. وقد بدت الدبلوماسية الأميركية مقتنعةً بصواب المخطط الإسرائيلي في البداية قبل أن تغير رأيها.
كذلك فقد كان الأردن أول من نبّه العالم إلى وحدة الأراضي الفلسطينية بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإفشال مخططات حكومة نتنياهو المتطرفة للفصل بينهما والخروج تماماً مما تبقى من التزامات أوسلو.
أما كسر الحصار على غزة وإنزال المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء جواً، فقد كان خطوة أردنية محفوفة بالمخاطر رفضتها حكومة نتنياهو التي تستخدم التجويع ومنع الدواء سلاحاً لمزيد من القتل والتجويع، وأبلغ الأردن الولايات المتحدة أن الطائرة الأولى التي ستدخل أجواء غزة ستكون على متنها شخصية أردنية عالية المستوى وقد يكون الملك نفسه.
استدعت الدبلوماسية الأردنية مفردات إزاء حكومة الاحتلال الإسرائيلي وعدوانها على الشعب الفلسطيني لم تُستخدم منذ معاهدة السلام عام 1994، الأمر الذي عدته الحكومة الإسرائيلية موقفاً معادياً. وتعرض العاهل الأردني وأسرته والحكومة إلى حملات إسرائيلية غير مسبوقة، إما من خلال تصريحات رسمية أو حملات على وسائل التواصل الاجتماعي، مثلما تعرض إلى حملات أخرى من «أشقاء» إما بالأصالة أو بالوكالة.
على الصعيد الشعبي، وقف الأردنيون كما كانوا على الدوام إلى جانب أشقائهم الفلسطينيين، وخلف قيادتهم في سعيها لإسناد الفلسطينيين، وفضح التضليل الإسرائيلي، وكسب التأييد الدولي للقضية الفلسطينية. وعلى مدى 6 أشهر، شهدت عمان والمدن الأردنية حراكاً شعبياً متواصلاً، تعبيراً عن وقوف الأردنيين إلى جانب الفلسطينيين، وتواصلت حملات التبرع لإغاثتهم.
غير أن ما جرى في الأسبوعين الأخيرين من شهر رمضان من حشد للتظاهر في عمّان تخللته هتافات لبعض المشاركين تحاول، عن قصد أو من دون قصد، حرف التركيز على العدوان الإسرائيلي، وإحداث حالة من الفُرقة الوطنية والاتهامية، والتقليل من جهود الدولة، تستدعي التوقف عندها، والتعامل معها بحكمة وبحزم أيضاً.
رغم محدودية الأمر ومحاولات بعض الأطراف الخارجية استغلال الحادثة لتضخيم الصورة. وسواء أكان القصد هو الحرص على الأردن وأمنه واستقراره من هذا الطرف، أو المبالغة وتوسيع الشقة من ذاك، ونظراً لخطورة الأوضاع في المنطقة واستمرارها، فإن الدولة الأردنية تنبهت إلى مخالفات قانونية وقعت، وتعاملت معها بالحزم القانوني الواجب، لئلا يؤدي تكرارها إلى الخروج على الدولة من بعض الأطراف أو الأشخاص.
كان واضحاً أن الحركة الإسلامية تحشد للتظاهر، وهو حق لأي حزب سياسي. والحركة الإسلامية مستقرة في الأردن منذ 8 عقود. وقد وقعت المخالفات أثناء تصدرها مشهد التظاهر الذي شهد عنفاً كلامياً. وعليه فإما أن تكون المخالفات قد ارتُكبت من أعضائها، ووجب عليها التبرير، وإما أنها صدرت من غير أعضائها، ووجب عليها التوضيح لئلا يتكرر المشهد مرةً أخرى.
تجرأ فصيل عراقي يحمل عنواناً طائفياً وعرض تسليح 12 ألف أردني في حين أنه يستطيع الاحتفاظ بالسلاح لنفسه وأن يقاتل من جبهة أخرى متاحة ومتحالفة معه.
يعاني الأردن من ظروف اقتصادية صعبة، لأسباب بعضها خارجٌ عن إرادته وتتعلق بثقل المديونية وارتفاع أسعار الطاقة وتكلفة الشحن، وتراجع النشاط الاقتصادي والمساعدات واستضافة اللاجئين. وقد جاء العدوان الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من 6 أشهر ليزيد من صعوبة تلك الظروف.
كذلك فإن الأردن مقبل على انتخابات نيابية عامة خلال العام الحالي وفقاً لقانون انتخاب جديد نجم عن حوار وطني وإصلاحات سياسية ودستورية.
يعني ذلك كله أن محاولات استغلال هذه الظروف لتحقيق مكاسب سياسية بالمزايدة على موقف الدولة قد تشكل منعطفاً ليس في مصلحة أي طرف، لا سيما الشقيق الفلسطيني الذي تنبه للأمر، ما حدا بالرئيس محمود عباس إلى القول علناً إن الأردن يستحق الشكر وليس الإساءة.
على العموم، مر الأردن بكثير من الظروف القاسية لكنه تجاوزها دوماً بالحوار وبالقانون. يرسل الأردن المساعدات جواً إلى غزة في كسرٍ لسياسة التجويع التي تنتهجها حكومة نتنياهو، ولا يخص طرفاً من دون الآخر في القطاع. أما المستشفى الميداني الأردني الذي يعمل في قطاع غزة منذ سنوات طويلة فلا يسأل المرضى عن انتماءاتهم السياسية.
فوق هذا كله يجد الأردن نفسه في مواجهةٍ على جبهة طولها 370 كيلومتراً مع سوريا منذ أكثر من عقد لتهريب المخدرات والسلاح بوسائل حديثة ومنظمة. وفي المقابل فهو يتحمل معظم تكلفة استضافة ما يزيد على 1.4 مليون لاجئ سوري على أراضيه بعد أن تراجع المجتمع الدولي عن التزاماته في التمويل الذي بلغ العام الماضي ما نسبته 23 في المائة من تلك الالتزامات.
أخيراً، وبصرف النظر عن التوصيفات المؤيدة أو الساخرة من الضربة الإيرانية لإسرائيل ونتائجها على الأرض أو على مسار الأحداث في فلسطين والمنطقة، وكذلك إغلاق المجال الجوي والتحسب لأي هجمات وهجمات مضادة وما تتطلبه هذه الأحوال من ضرورة حماية الأجواء، فإن الأردن ينظر في المقابل إلى استغلال حكومة نتنياهو تعاطفاً غربياً استعادته بعد تراجع أوروبي واضح خلال الأسابيع الماضية، وربما يستغله لارتكاب مجزرة جديدة في رفح.
لسان حال الأردنيين اليوم أمام كل هذه الجبهات المفتوحة: لسنا ساحة خلفية لأي طرف، ولسنا جزءاً من أي أحلاف أو تصفية حسابات إقليمية، ولن نقبل شهادة حسن سلوك لا من الخارج ولا من الداخل. أولوياتنا هي دعم أشقائنا، وحماية حدودنا ومجتمعنا ومنجزاتنا واستقرارنا.
(الشرق الأوسط)