تقدير موقف

اليمن: معركة الاقتصاد تهزّ سكون التهدئة

خلف الهدوء الذي تشهده جبهات القتال في اليمن منذ عام ونصف العام، تدور معركة اقتصادية غير مسبوقة بين الحكومة المعترف بها دوليًا والحوثيين، وهو ما زاد من الانقسامات التي يعيشها هذا البلد، والتدهور الاقتصادي جعل أكثر من 70% من السكان البالغ عددهم نحو 35 مليون نسمة يعيشون على المساعدات الأممية.

اليمن: معركة الاقتصاد تهزّ سكون التهدئة

مع تصاعد هذه المواجهة وانعكاساتها المباشرة على حياة السكان، أفاد مبعوث الامم المتحدة الخاص باليمن هانس غرو ندبرغ بأنّ الصراع للسيطرة على الموانئ المدرّة للإيرادات والطرق التجارية والقطاع المصرفي والعملة والثروات الطبيعية، قد أصبح جزءًا لا يتجزّأ من النزاع السياسي والعسكري، وذكر أنّ إغلاق الطرق نتيجة النزاع يجبر آلاف اليمنيين في كل يوم على اتخاذ طرق غير آمنة، كما يرفع أيضًا من تكلفة نقل السلع بنسبة تفوق المائة بالمائة، وقال إنّ "المواطن يدفع الثمن الأكبر للانقسامات الاقتصادية والتدهور الاقتصادي في البلاد".

عدم قدرة الحكومة على تصدير النفط أدى إلى الإضرار بتوفير الخدمات الأساسية ودفع رواتب الموظفين

غروندبورغ الذي يسعى إلى استئناف محادثات السلام المتوقفة منذ العام 2016م قال إنه يتعيّن على الأطراف خفض التصعيد الاقتصادي فورًا ومعالجة الأولويات الاقتصادية ذات المديين القريب والبعيد، وعليها أن تضمن انتظام دفع رواتب القطاع العام على المستوى الوطني، وعليها تعزيز الروابط الاقتصادية وغيرها من الروابط بين اليمنيين في مختلف أجزاء البلاد.

فيما أكدت منسقة الشؤون الإنسانية في الامم المتحدة، إنّ عدم قدرة الحكومة على تصدير النفط وما نتج عنه من خسائر في الإيرادات منذ هجمات الحوثيين بطائرات بدون طيار على محطات التصدير أدى إلى الإضرار بتوفير الخدمات الأساسية ودفع رواتب الموظفين العموميين.

هذا الامر أكد عليه عيدروس الزُبيدي، وهو عضو مجلس القيادة الرئاسي، حيث أبلغ الولايات المتحدة أنّ المواجهة الاقتصادية مع الحوثيين جعلت الحكومة عاجزة عن القيام بالمهام المناطة بها لإنعاش الوضع الاقتصادي وتقديم الخدمات للمواطنين، وطالب دول التحالف العربي والمجتمع الدولي، بتقديم دعم عاجل لمنع المزيد من الانهيار.

إجراءات الحوثيين ستحرم الحكومة من الضرائب والرسوم الجمركية وعائدات بيع "غاز الطهي" لأكثر من نصف السكان

وكانت المواجهة بدأت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عندما قصف الحوثيون بطائرات مسيّرة موانئ تصدير النفط في محافظتي شبوة وحضرموت، ما تسبّب في إيقاف تصديره حتى اليوم بحيث قدّرت الحكومة خسائرها خلال الأشهر الثمانية الماضية بأكثر من مليار دولار، لكن المواجهة امتدت مؤخرًا إلى عائدات الضرائب وبيع غاز الطهي، إذ أصدر الحوثيون قرارًا منعوا بموجبه دخول البضائع المستوردة عبر الموانئ الخاضعة لسيطرة الحكومة. كما منعوا دخول شحنات غاز الطهي المنتج محليًا إلى مناطق سيطرتهم وذهبوا نحو استيراد هذه المادة من الخارج.

إجراءات الحوثيين إلى جانب أنها أفقدت الحكومة أهم مصدر للعملة الصعبة، فإنها ستحرمها من مصدر آخر مهم، هو عائدات الضرائب والرسوم الجمركية، إذ إنّ الكتلة السكانية الأكبر تعيش في مناطق سيطرتهم، وستؤدي قرارتهم إلى انخفاض كبير في عائدات الموانئ التي تديرها الحكومة، بعد أن أمروا بتحويل الاستيراد عبر موانئ الحديدة الخاضعة لسيطرتهم، كما سيحرم الحكومة من عائدات بيع غاز الطهي لأكثر من نصف سكان البلاد. وهو أمر أكد عليه رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي، وقال إنّ العائدات التي يتحصّل عليها الحوثيون تتجاوز أربعة مليار دولار في العام، في حين أنّ إجمالي ما تحصل عليه الحكومة لا يزيد على ملياري دولار.

ومع اشتداد المواجهة الاقتصادية، وتمسّك الحوثيين برفض مقترح يقضي بأن يتولّى التحالف العربي تمويل بند الرواتب لمدة ستة أشهر يتم خلالها معالجة الانقسام القائم في البنك المركزي والعملة الوطنية، واستئناف تصدير النفط والغاز، إضافةً إلى تأخّر إطلاق جزء من الوديعة السعودية الإماراتية للبنك المركزي اليمني في مناطق سيطرة الحكومة، كل ذلك دفع بوزير الإعلام والثقافة معمر الارياني إلى التحذير من أنّ استمرار ما وصفه بالمسار التصعيدي للحوثيين، ينذر بانهيار الأوضاع الاقتصادية، ويفاقم المعاناة الإنسانية.

4 أُسر من بين كل 10 أُسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي

الارياني هدّد بأنّ الحكومة لن تقف مكتوفة الأيدي، وأنها ستضطر إلى مراجعة الخطوات التي اتخذتها ضمن بنود الهدنة الأممية، وفي مقدمتها إعادة النظر في التسهيلات المتصلة بتشغيل ميناء الحديدة ومطار صنعاء، وستتخذ التدابير التي تحفظ مصالح ومقدرات الشعب. لكنّ مصادر حكومية وأخرى سياسية يمنية، أكدت أنّ التحذير يأتي في إطار الضغوط المطلوبة أثناء المحادثات التي تجرى عبر وسطاء مع الحوثيين، وأنّ المجتمع الدولي لن يسمح بالقضاء على المكاسب التي تحققت للمدنيين منذ أبريل (نيسان) عام 2022، عند بدء سريان الهدنة التي ترعاها الامم المتحدة.

هذا التصعيد واكبه تأكيد مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية تدهور انعدام الأمن الغذائي بشكل طفيف خلال جولة المراقبة الحالية التي أجريت في أواخر مايو (أيار) الماضي. لكن المكتب نبّه إلى اقتراب البلاد من موسم العجاف الذي يمتد إلى أكتوبر (تشرين الأول) القادم.

ووفق بيانات وزّعها المكتب، فإنّ ما يقرب من 4 أُسر من بين كل 10 أُسر شملها المسح تعاني من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما يعادل المرحلة الثالثة من التصنيف الدولي، حيث أفاد 44% من الأسر التي شملها الاستطلاع عن استهلاك نظام غذائي رديء الجودة. وشهدت محافظات الجوف والحديدة وحجة وتعز أعلى انتشار لانعدام الأمن الغذائي الشديد، وذكرت أنّ حالة انعدام الأمن الغذائي كانت مرتفعة بشكل مستمر في معظم جولات المراقبة التي تمّت في هذه المحافظات.

وفي المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، ذكر مكتب الشؤون الإنسانية أنّ انتشار انعدام الأمن الغذائي يعادل المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وبزيادة 7 نقاط مئوية عن المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. وأظهر أنّ 78% من الأسر التي شملها الاستطلاع لجأت إلى استراتيجيات قاسية للتعامل مع سبل العيش، مما يضرّ بقدرتها على إدارة الصدمات.

وطبقًا للبيانات الأممية، فقد أفاد أكثر من نصف (55%) الأسر التي شملتها الدراسة بأنها تعرّضت لصدمات وضغوط مختلفة. وكانت الأسر التي ليس لديها مصدر دخل هي الأكثر معاناةً من انعدام الأمن الغذائي، يليها العمال بأجر في القطاعين الزراعي وغير الزراعي. وكذلك منتجو وبائعو الثروة الحيوانية.

عدم احتواء المواجهة الاقتصاديه سيؤدي إلى انهيار الدولة وشيوع الفوضى وزيادة الأوضاع الإنسانية سوءًا 

بدوره يؤكد أستاذ الاقتصاد في المعهد الوطني للعلوم الإدارية صالح الجفري أنّ الأوضاع المعيشية للناس تتفاقم ومتواليات أسعار المعيشة تتصاعد دون ضوابط بحدها الأدنى، وتتآكل نقودهم وتتهاوى قيمتها بالسوق ولم تعد تفي بما يحتاجون من السلع والخدمات الضرورية. ويرى أنّ موارد البلد تتقلّص جراء الفساد، وسوء إدارة المتاح من الموارد، وتوقّف تصدير النفط عقب ضرب الحوثيين لمنصات التصدير.

وفي غياب حلّ سياسي على المدى المنظور، يرى اثنان من كبار المسؤولين اليمنيين أنّ عدم احتواء المواجهات الاقتصاديه، سيؤدي إلى ما هو أخطر من المواجهة العسكرية، حيث ستعجز الحكومة عن دفع رواتب حوالى نصف موظفي البلاد، ومنتسبي التشكيلات العسكرية، وذلك من شأنه أن يؤدي إلى انهيار بقية مؤسسات الدولة، وشيوع الفوضى، وزيادة الأوضاع الإنسانية سوءًا في بلد يحتاج 21 مليونًا من سكانه إلى شكلٍ من أشكال المساعدات وفقًا لأحدث بيانات الامم المتحدة، فيما حذّر برنامج الغذاء العالمي من أنه قد يضطر إلى وقف المساعدات الغذائية عن 5 ملايين شخص في سبتمبر (أيلول) القادم إذا لم يحصل على تمويلات إضافية من الدول المانحة. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن