بصمات

على خطى "ابن رشد"هل ينجح الفكر العربي المعاصر في استئناف الوصل بين الفلسفة والشريعة؟

ربما يكون أبرز سؤال شغل الفكر العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع وحتى نهاية القرن 20 هو: كيف ينهض العرب فكريًا؟ لقد أثيرت في هذا السياق إجابات عديدة مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وشكيب أرسلان وغيرهم. ومنذ الحوار الشهير بين محمد عبده وفرح أطون نشأ تياران، الأول يقول لا نهوض إلا بمرجعية دينية تعود إلى الأصلين القرآن والحديث، والثاني يقول لا نهوض إلا بالعقلانية والعودة إلى الفلسفة. ورغم التفاوت داخل كل تيار فإنّ تلك هي المقولة العامة وإن تباينت أساليب التعبير عنها.

على خطى

قد لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ الفكر العربي في محاولته الإجابة عن هذا السؤال المركزي بقي رهينًا للهواجس السياسية والأيديولوجية طيلة القرن الماضي، أكثر من التزامه بالشروط العلمية والفلسفية، بما في ذلك أصحاب المشاريع مثل: الطيب تيزيني والجابري ومحمد أركون وغيرهم، فقد بدا الأمر وكأنّ لا شيء من الفلسفة في الدين ولا شيء من الدين في الفلسفة. ومن الأطروحات الراهنة التي حاولت أن تتجاوز هذا التناقض المفترض، والبحث عن طريق ثالث لا يتخلى عن الفلسفة ولا يخرج عن الدين، أطروحة العلامة عبد الله بن بيه.

قول بن بيه إنّ "المنطق والفلسفة بعد أن كانا علومًا إسلامية، أصبحا اليوم شبه غائبين في الكثير من الجامعات الإسلامية". قد يستغرب البعض من وضوح الشيخ في هذا الموقف الإيجابي من الفلسفة والمنطق، بل أكثر من ذلك اعتبارهما علومًا إسلامية. ولكنّ المتابعين لفكر الشيخ يعرفون أنّ هذا الأمر ليس جديدًا، فهو مبثوث بدراجات متفاوتة في كل مؤلفات الشيخ وبحوثه ومحاضراته، بل ربما يعود إلى أصول تكوين الشيخ الأولى في محضرة والده وغيرها، حيث درس النصوص الكلامية والمنطقية إلى جانب علوم القرآن والفقه والأصول وعلوم اللغة.

كان التكامل بين العلوم العقلية والشرعية أحد السمات البارزة في التجربة الإسلامية

يتحدث بن بيه بصراحة عن ضرورة المصالحة بين علوم العقل وعلوم النقل، وضرورة التكامل: بين الدين والفلسفة وبين الفلسفة والأخلاق، وبين الدراسات الشرعية والعلوم الإنسانية. ومنهجه يقوم على: "الموائمات الحضارية والوساطات، إنه منهج الجسور الممدودة بين الحقول المعرفية، والممرات الواصلة بين الفضاءات الثقافية". إنّ بن بيه عندما دعا إلى التكامل بين العلوم لم يرتكب بدعة معرفية، بل سار على نهج سلف كامل من كبار الفقهاء والفلاسفة في التاريخ الإسلامي.

 لقد كان التكامل والتداخل بين العلوم العقلية والشرعية أحد السمات البارزة في التجربة الإسلامية. وإذا أخذنا المنطق نموذجًا فسنتلمّس أثره مبكرًا عند كبار العلماء، كما يظهر عند الباقلاني في كتاب التقريب والإرشاد، وتبعه الجويني في البرهان وغيرهما، أما ابن حزم فقد كان أول من دافع عن المنطق من الفقهاء بقوة وأيّده في كتابه: تقريب المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، ثم كانت اللحظة الحاسمة مع الغزالي، في كتابه: المستصفى حيث نظّر لمزج المنطق بالأصول، ودافع عنه وطبّقه، وبلغ الأمر ذروته مع فخر الدين الرازي وسيف الدين الآمدي ومن تبعهم.

لقد كان لمقدّمة الغزالي المنطقية التي وضع للمستصفى الأثر البالغ في من بعده، وسار جمع كبير من الأصوليين على نهجه مثل: ابن قدامة في روضة الناظر وجنّة المناظر، والأصفهاني في مقدّمة الكاشف. كما تبع جمع كبير من فقهاء المالكية الغزالي في ذلك، منهم: ابن الحاجب، والقرافي. وكان لابن عرفة دور بارز في تكريس المنطق ضمن دروس الفقه المالكي.

واستحسن جمع من الأصوليين العلم بالمنطق للمجتهد، بل جعله بعضهم شرطًا من شروط الاجتهاد. وقد علّق القرافي على قول الرازي بضرورة معرفة شرائط الحد والبرهان للمجتهد، "قلنا: لا يكمل ذلك إلا بإيعاب علم المنطق، فإنه ليس فيه إلا ذاك، فيكون المنطق بذلك شرطًا في منصب الاجتهاد". كما نقل الطوفي عن البعض اشتراط العلم بالمنطق في المجتهد، ونقله الزركشي عن المتأخرين.

القطيعة مع التراث خطأ والتقوقع فيه خطيئة

وعليه فإنّ دعوة الشيخ بن بيه الصريحة إلى ضرورة الوصل بين الدين والفلسفة، ليست دعوة طارئة بل هي استئناف لتقليد إسلامي، الظاهر أنه جهر في الفترات المتأخرة.

كما حثّ بن بيه على الاستفادة من كل ما تتيحه العلوم الإنسانية المعاصرة، مبيّنًا أنّ "الحال اليوم داعية إلى الانفتاح على العلوم الإنسانية لتلافي الفصل بين المعارف، الذي أدى إلى انعدام التكامل في شخص العالم المسلم، وهي الميزة المعرفية والمزية الثقافية في عصور الازدهار الحضاري للأمة، حيث كان العالم يجمع بين علوم الطبيعة وعلوم الشريعة".

ورغم وضوح الشيخ الإمام بن بيه وصراحته في الحثّ على التكامل بين المعارف، والاستفادة من كل ما هو جديد نافع، فإنه يقيّد كل ذلك بالانضباط بالشرع والاسترشاد بالوحي وجعله هاديًا وموجهًا وحاكمًا، ويؤكد في الوقت نفسه على أنّ "القطيعة مع التراث خطأ، والتقوقع فيه خطيئة".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن