الحقيقة أنّ الانقسام حول إيران في بعض البلدان العربية، وشيوع نظريات المؤامرة والتسطيح في بلاد أخرى، جعل البعض لا ينظر لطبيعة الرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي بالصورة الصحيحة، ودخلنا في مساحات من السخرية والاستهزاء والتسفيه طالت مجمل الأداء الإيراني.
والحقيقة أيضًا أنّ الجدل "غير الصحي" الذي جرى في العالم العربي حول الهجوم الإيراني عكس جانبًا من أزماتنا ربما بصورة أكبر من أزمة إيران، فهناك من روّج عن قناعةٍ أو تماهٍ مع معارك "اللجان الإلكترونية" أنّ طهران قامت بتمثيلية متفق عليها مسبقًا مع الأمريكيين والإسرائيليين بغرض "التهويش"، وأنّ الأمر لا يعدو مجرد مسرحية متفق عليها مسبقًا أدت إلى تعاطف الرأي العام الدولي مع إسرائيل.
القضية الفلسطينية هي جزء من مشروع إيران السياسي في المنطقة بعيدًا عن كل الشعارات الأيديولوجية التي ترفعها
والمؤكد أنّ هذا الكلام يجب أن يراجَع من قبل كل العقلاء في العالم العربي بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية وموقفهم من إيران لأنه يسيء لنا كعرب أكثر من إيران ويضعنا في خانة المفعول به الغير قادر على الفعل والذي يجعل قضيته الأساسية التشكيك فيما يفعله الآخرون وينسى أو يتناسى أنّ إيران مثل تركيا مثل كل دول العالم تتحرك دفاعًا عن مصالحها وليس مصالح الآخرين.
يقينًا، إيران دولة كبيرة ومؤثّرة في نطاقها الإقليمي، وكل تحركاتها من أجل الدفاع عن مصالحها الوطنية ونفوذها الإقليمي حتى لو كان على حساب الدول الأخرى وخاصة بلدان عربية كثيرة، وحين قامت بعملية محدودة ضد إسرائيل لم تكن تدافع عن مصالح العالم العربي أو حتى القضية الفلسطينية التي تعلن كل يوم دعمها لها، فهي جزء من مصالحها ومشروعها السياسي في المنطقة بعيدًا عن كل الشعارات الأيديولوجية التي ترفعها.
ومن هنا فإنّ الأمر يبدو غريبًا أن يهاجم البعض إيران لأنها قامت بعملية محدودة ضد إسرائيل وفق حساباتها ودفاعًا عن مصالحها، وحين اختارت الانتقال من سياسة "الصبر الاستراتيجي" إلى "حروب الردع" وليس الحرب الشاملة، طالبها البعض بالدخول في حرب شاملة مع إسرائيل، وهو من الأصل ليس جزءًا من أي حرب أو مواجهة.
لا يجب الاستخفاف أو إدانة أي دولة اختارت وسيلة معينة للرد على هجوم تعرضت له فهو أمر يخصها ولا يخص الآخرين، وهو بالمناسبة هجوم لم يكن سهلًا بل كان بالمعنى النسبي كبيرًا وشمل 185 طائرة مسيّرة و36 صاروخ كروز و110 صواريخ أرض-أرض.
وعلينا أن نذكر أنّ تكلفة الطائرة المسيّرة الإيرانية الأكثر تطورًا تصل إلى حوالى 10 آلاف دولار، في حين أنّ تكلفة الصاروخ الإسرائيلي من منظومة "مقلاع داود" الدفاعية تصل إلى مليون دولار، ومهما كان الدعم الهائل الذي تتلقاه إسرائيل من أمريكا فإنها بلا شك مرّت بليلة شديدة السواد أصابت سكانها بهلع شديد وكسرت هيبتها لأنها دولة قامت على الاستثناء في كل شيء، فهي فوق القانون وفوق المحاسبة، وهي أيضًا يجب أن لا تُقصف أو تُستهدف مثل الدول الأخرى حتى لو لم يُصَب من سكانها أحد.
واضح أنّ الرد الإيراني وضعها كدولة شرق أوسطية تمانع بالفعل وليس بالشعارات لأننا صعب أن نحصي عدد المرات التي تعرّض لها النظام السوري لهجمات إسرائيلية لم يرد عليها مرّة واحدة.
صحيح أنّ إيران وميليشياتها دعمت النظام السوري وربما أنقذته من السقوط وفقدت بذلك حاضنة شعبية كان يمكن أن تحصل عليها من غالبية الشعب السوري وهو ما تكرر في كثير من البلاد العربية، وجعل هناك تيار في داخلها يشكك في أي فعل تقوم به إيران ويرفضه حتى لو كان دفاعًا عن مصالحها.
يجب تفنيد جوانب كثيرة في الخطاب السياسي والدعائي لإيران، ومن حق كثيرين ألا يعتبروها نموذجًا يُحتذى ولا الراعي الأول للقضية الفلسطينية، إنما أن نفرض عليها خيارات بعينها سبق وأن جرّبتها بعض النظم العربية حين حرّكها الحماس والشعارات السياسية ودخلت في حروب شاملة مع إسرائيل وانتهت معظمها بالهزائم، أمر غير مقبول.
أهمية ما فعلته إيران أنها فرضت قواعد جديدة للاشتباك
ما قامت به إيران على محدوديّته يُمثّل أقصى رد فعل يمكن أن تقوم به دولة في مواجهة إسرائيل، والمطلوب لمن يشعر بأنّ هناك بُعدًا حضاريًا وثقافيًا بين العرب والإيرانيين والأتراك يُحتّم التعاون بينهم أن يقبل ما قامت به إيران ولا يستخف به حتى لو صعب عليه أن يشيد به.
لن تستطيع إيران أو أي دولة أخرى أن تدخل في الوقت الحالي في مواجهة شاملة مع إسرائيل فالنتيجة ستكون محسومة لصالح الأخيرة، لكن أهمية ما فعلته إيران أنها فرضت قواعد جديدة للاشتباك وأخذت مخاطرة أن تظل المواجهات بينهما في إطار الردع المتبادل ومعارك النقاط، وهو خيار حسمت استمراره بهذا الشكل طبيعة الرد الإسرائيلي.
(خاص "عروبة 22")