في خضم هذه الرحلات وصل الآلاف إلى وجهتهم وتوفي المئات على عتبات الحلم المنشود، وظل العديد منهم في عداد المفقودين رغم مرور أكثر من سنة على يوم الهجرة، تاركين عائلاتهم يعانون بسبب عجزهم عن معرفة مصير أبنائهم.
"في الـ27 من يوليو/تموز 2022 غادر ابني بدر الدين حسين رفقة أربعة من أصدقائه، وقبل وصولهم تعرّض قاربهم للغرق وتدخّل صيادون لإنقاذهم لكن ابني لم يكن بينهم لا حيًا ولا ميتًا. يقول أصدقاؤه إنّ موجة قوية أخذته لكنني أعلم أنّ ابني قوي وسباح ماهر لا يمكن أن تهزمه موجة، وحتى إذا افترضنا أنه غرق لماذا لم يعثروا على جثته؟ كما أنّ هناك من أخبرني أنه وصل للأراضي الإيطالية فكيف لي أن أتوقف عن البحث؟".
بكثير من الحزن والحيرة تحدثت والدة بدر الدين حسين (26 سنة) لـ"عروبة 22" عن ابنها الذي ذهب في رحلة غير نظامية قبل حوالى سنتين عبر سواحل قليبية (شمال شرق تونس) ولم يعد بعدها، لا ميتًا ولا حيًا، ولم تحصل على أي أنباء تدل عنه رغم الجهود الكبيرة والأبواب العديدة التي طرقتها وبقية أفراد العائلة للظفر بنبأ عنه. كان ذلك على هامش وقفة احتجاجية نظّمتها عائلات المهاجرين التونسيين المفقودين أمام السفارة الايطالية بالتزامن مع الزيارة التي قامت بها رئيسة الحكومة الإيطالية إلى تونس بسبب ملف الهجرة غير النظامية.
تقول بعيون دامعة: "كم أخشى أن يكون قد دفن سرا في أحد المقابر الغريبة في تونس أو في إيطاليا دون أن يتم إعلامنا، تمامًا كما حدث مع أبناء أهالي جرجيس سابقًا... منذ أن فقدتُه وأنا أقبعُ في منتصف الحيرة ولا أدري هل سيأتي اليوم الذي أعرف فيه مصيره؟!".
تجدر الإشارة إلى أنه في أواخر سبتمبر/أيلول 2022 اختفى قارب كان على متنه 18 مهاجرًا من مدينة جرجيس (جنوب شرق تونس)، عثر صيادون محليون على جثث 8 منهم، وفيما كان الأهالي بصدد البحث عن أبنائهم قامت السلط التونسية بدفن جثث عثرت عليها "بمقبرة المهاجرين الغرباء" دون أن تقوم بأي خطوة لتحديد هوياتهم. وتحت ضغط الأهالي الذين نفذوا تحركات كثيرة منها إضراب عام، اضطرت السلطات المحلية لفتح قبور، ليتضح أنّ الجثث تعود للمهاجرين الذين كانوا بالقارب الغارق.
وتقع في جنوب مدينة جرجيس، مقبرة يطلق عليها "مقبرة أفريقيا" أو "مقبرة المهاجرين الغرباء" يرقد فيها ضحايا مراكب الهجرة غير النظامية القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء، بعد أن ركبوا البحر بحثًا عن حياة أفضل على الضفة الشمالية للبحر المتوسط، لينتهي بهم الأمر في مقابر دون هوية تدل عليهم.
ليست والدة بدر الدين حسين وحدها التي تعيش لوعة فقدان ابنها منذ فترات طويلة، هناك الكثير من العائلات التي تعيش حالة الانتظار ذاتها. إذ يُعتبر ملف المهاجرين التونسيين غير النظاميين المفقودين، من الملفات التي ظلت عالقة رغم طرحها منذ سنوات، ورغم ارتفاع عدد المفقودين من سنة إلى الأخرى، ولعل هذا ما يفسّر عدم توفر أرقام رسمية دقيقة لعدد المهاجرين المفقودين، لا سيما وأنّ هذا الملف فُتح منذ سنة 2011 دون أن تحقق الدولة أي تقدم يُذكر في حلحلته.
فقد أحدثت وزارة الشؤون الاجتماعية لجنة مكلفة بمتابعة ملف التونسيين المفقودين جراء الهجرة غير النظامية باتجاه ايطاليا خلال سنتي 2011 و2012. وأوكل إليها مهمة جمع كل المعلومات المتعلقة بالمفقودين والتنسيق مع الجهات الايطالية المعنية بهذا الملف بما في ذلك مكونات المجتمع المدني والتواصل مع عائلات المفقودين ومدهم بكل ما يستجد. في البداية ولفترة طويلة عملت هذه اللجنة على جمع المعطيات اللازمة من خلال التواصل مع عائلات المهاجرين المفقودين ثم قامت بتقديم ملف كامل لوزارة الداخلية الإيطالية. لكن الأخيرة لم تتفاعل مع البادرة التونسية لأنها بدورها متورطة في ملف المفقودين سواء بإخفاء الأعداد الحقيقية أو بضلوعها في التقصير في إغاثة المهاجرين لدى غرقهم.
ومنذ ذلك الحين لم يصدر أي نشاط أو تحرّك يُعتد به عن اللجنة من شأنه أن يقدّم أي إضافة أو إيضاحات بشأن المفقودين لأهاليهم، وهو ما دفع العائلات للجوء إلى المنظمات والجمعيات المعنية بالهجرة وإطلاق نداءات عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام على أمل الوصول لمعلومة ما.
يقول النائب السابق مجدي الكرباعي، المعروف بدفاعه عن حقوق المهاجرين في إيطاليا لـ"عروبة 22": "من الصعب إعطاء رقم دقيق لعدد المفقودين لكن أُرجّح أن يتجاوز عددهم 1000 شخص منذ مطلع سنة 2011 حتى الآن، والأكيد أنّ عدم توفر أرقام دقيقة مردّه إلى التقصير من جهات مختلفة سواء في تونس أو في إيطاليا. فعلى سبيل المثال هناك الوكالة الأوروبية لمراقبة وحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي "فرونتكس" التي تقوم بدوريات استطلاع ومراقبة لقوارب المهاجرين غير النظاميين وبالتالي فهي قادرة على توفير معلومات وافية عن الملف. وحتى إن لم تمتلك تسجيلات لكل حوادث غرق قوارب المهاجرين فإنني أستطيع الجزم بأنها حتمًا تملك سجلًا كبيرًا من التسجيلات التي يمكن أن تساعد السلطات وعائلات المفقودين في معرفة مصائر أبنائهم أو بعضهم على الأقل. لكنها لا تقوم بذلك".
وتدور لقاءات رفيعة المستوى متتالية بين الجانبين التونسي والإيطالي بسبب ملف الهجرة والتي كان آخرها الزيارة الخاطفة والرابعة خلال سنة لرئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، الأربعاء 17 أبريل/نيسان، لكنها في مجملها لا تركز إلا على الجانب الأمني وتُسقط الجانب الإنساني في هذا الملف. وهو ما جعل هذه الزيارة تثير ردود فعل منددة لا سيما من بعض الجمعيات وعائلات المفقودين الذين نفذوا وقفة احتجاجية أمام السفارة الإيطالية للتذكير بمطالبتهم بمعرفة مصير أبنائهم بعد أن باتوا يرون أن هناك تناقضًا بين الخطاب الرسمي الذي يدّعي الحرص على السيادة ورفض لعب دور الحارس لأوروبا، والممارسة التي تأتي عكس ذلك بل وتسقط مصالح المهاجرين التونسيين في إيطاليا.
وهذا ما يؤكده عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المكلّف بموضوع الهجرة رمضان بن عمر الذي قال لـ"عروبة 22": "لقد صرّح الرئيس التونسي قيس سعيد خلال زيارته لمدينة صفاقس في يوليو/تموز 2023 قائلًا لا يمكن أن نكون حرسًا لدولهم، في حين تضخ الحكومة الايطالية أموالًا تحت مشاريع ومسميات عديدة لتتحول تونس لمصيدة للبشر المتنقلين نحو الضفة الشمالية. وهذا ما تؤكده الأرقام إذ أعاد الحرس البحري التونسي 1456 مهاجرًا إلى الأراضي التونسية بعد اعتراضهم في البحر ما بين الأول من يناير/كانون الثاني الماضي و15 أبريل/ نيسان الجاري، وإن لم يمنع ذلك الموت على السواحل الذي بلغ 197 ضحية ومفقودًا خلال الفترة نفسها".
ويضيف: "منذ 2016 سيّرت إيطاليا نحو تونس أكثر من 500 رحلة "شارتر" لطرد المهاجرين التونسيين (غير معلنة من الجانب التونسي)، هذا إلى جانب عمليات الفرز على الهوية والانتهاكات الممنهجة في مراكز الاحتجاز من عنف جسدي ونفسي وحرمان من الحقوق وحالات موت وحرمان من الحق في الحماية الدولية التي يتعرّض لها المهاجرون التونسيون في إيطاليا منذ وصولهم، ورغم ذلك لا نجد مسؤولينا يطرحون هذه الأمور خلال لقاءاتهم المتكررة مع نظرائهم الإيطاليين".
تجدر الإشارة إلى أنّ إيطاليا ماضية في تشديد سياستها إزاء المهاجرين، حيث أصدرت السنة الماضية عدة مراسيم وقوانين تتعلق بالمهاجرين غير النظاميين وطالبي اللجوء، من أبرزها التمديد في فترة الاحتجاز وانتظار الترحيل لتصل إلى 18 شهرًا، بعد أن كانت 3 أشهر قابلة للتمديد بـ45 يومًا. كما تم تقويض إمكانية التمتع بـ"الحماية الخاصة" التي كانت مخصصة لطالبي اللجوء. بالإضافة إلى فرض مبلغ قيمته حوالى 5000 يورو يجب على طالبي اللجوء دفعه ممن رُفضِت ملفاتهم وينوون الاستئناف أو البقاء في مركز احتجاز في انتظار القرار النهائي.
وتؤرق تونس ظاهرة الهجرة غير النظامية، لا سيما وأنّ أعداد المهاجرين (سواءً من حاملي الجنسية التونسية أو من القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء الذين يعتبرون الأراضي التونسية محطة عبور هامة في اتجاه الدول الأوروبية) في ارتفاع مستمر. ففي العام 2023، مثّل التونسيون الجنسية الثانية للمهاجرين غير القانونيين الذين يصلون إلى إيطاليا (بواقع 17304) خلف الغينيين (18204)، بحسب وزارة الداخلية الإيطالية.
وسجل مارس/آذار الماضي وحده وصول 673 مهاجرًا غير نظامي تونسي إلى السواحل الإيطالية، ليرتفع عدد الواصلين خلال الربع الأول من سنة 2024 إلى 1371 مهاجرًا تونسيًا، حسب إحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
(خاص "عروبة 22")