تقدير موقف

ماذا يخسر العرب بانكسار المقاومة؟

نشطت في الأسابيع الأخيرة محادثات رفيعة المستوى عبر الانترنت بين واشنطن وتل أبيب بشأن "رفح"، بيان البيت الأبيض الصادر عن الاجتماع الأخير بينهما أكد أنّ الجانبين ناقشا الموضوع الإيراني قبل الانتقال إلى مناقشة "الهدف المشترك المتمثّل في رؤية حماس مهزومة في رفح".

ماذا يخسر العرب بانكسار المقاومة؟

مخطئٌ من يتصوّر يومًا أنّ انكسار المقاومة يحقق أيّ مكسب للعرب، بل سيفتح أبواب الجحيم على المنطقة كلّها، في ظل السيناريوهات التي يجري إعدادها في المطابخ الغربية التي تسعى إلى القفز على حلّ القضية الفلسطينية إلى الحلّ مع العرب وصار "كسر غزّة" هي الكلمة المفتاح في استراتيجية أمريكا الهادفة إلى تسييد إسرائيل على محيطها.

سياسة الحلّ مع الإقليم وليس مع الفلسطينيين هي أكبر مكسب يمكن أن تحققه إسرائيل في الوقت الذي سيشكل خسارةً مضافة إلى خسائر العرب المتراكمة بعضها فوق بعض.

كل تماهي عربي مع السيناريوهات الأمريكية/الإسرائيلية الساعية إلى كسر المقاومة يقودنا بالضرورة إلى تحويل القضية لمشكلة فلسطينية/عربية، ولن يجني العرب غير تحميلهم فاتورة "اليوم التالي" كاملة.

سيكتشف العرب في اليوم التالي لانكسار المقاومة أنهم أكبر الخاسرين جرَّاء تفريطهم في أوراقٍ كانت بين أيديهم

مشكلة السياسة العربية أنها تغفل حقيقة أنّ المقاومة ليست ترفًا يسعى إليه الفلسطيني، وتتعامى عن أنّ إسرائيل آخر احتلال استيطاني إحلالي في تاريخ البشرية لم يترك أمام الفلسطينيين غير خيار المقاومة.

في جولة الحرب الدائرة رحاها منذ ما يزيد على مائتي يومٍ يحاول الجيش الإسرائيلي أن يفرض على المقاومة خيارًا وحيدًا هو الهزيمة التي تخرجها ليس من غزّة وحدها، بل تشطبها من معادلة القضية الفلسطينية، وتخرجها من معادلات المنطقة بأسرها.

مثل هذا المآل لا يمكن أن تقبل به أي مقاومة، حتى لو أرادت، خاصة في ظل ما خلّفته آلة الحرب الإسرائيلية من حالة شعبية مأساوية لا تستطيع قوى المقاومة أن تتجاوزها.

في المقابل، وفي ظل الأوضاع العربية الراهنة، لا يستطيع العرب بالسلام مع إسرائيل أن يضمنوا تحقيق الطموحات الوطنية الفلسطينية المشروعة، وتل أبيب من ناحيتها لا تعرض على الفلسطينيين غير التقتيل والتطهير العرقي والتهجير، وترفض قطعيًا "حلّ الدولتين".

تتطلّع إسرائيل إلى بناء علاقات طبيعية مع محيطها العربي فوق جثة المقاومة، بعدها لن يكون هناك قضية فلسطينية، وتصبح "تل أبيب" هي عاصمة المنطقة، تأتي إليها وفود "السلام" طوعًا أو كرهًا تخطب وُدها، أو تسعى إلى حمايتها.

سيكتشف العرب في اليوم التالي لانكسار المقاومة - إن حدث لا قدر الله - أنهم أكبر الخاسرين جرَّاء تفريطهم دون مقابل في أوراقٍ كانت بين أيديهم، وأنّ السياسة العربية تكرر أخطاءها بدون أن تعي دروسها، وتتغافل عن حقائق الصراع في المنطقة التي لم تتوقف محاولات الغرب للسيطرة والهيمنة وفرض التبعية عليها.

المقاومة سندٌ حتى للساعين إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومن دون ورقة المقاومة ستفرض إسرائيل على الأطراف العربية - بمن فيها دول التطبيع - شروطها القاسية، وهيمنتها المذلة.

حضور الدور الإيراني يعبّر في صورة من صوره عن تراجع وربما تخاذل الدور العربي

لا أحد عاقلًا يطلب من الأنظمة خوض الحرب دفاعًا عن غزّة، ولكن أي عاقل يدرك أنّ جعبة العرب فيها الكثير من "النبال" التي لو أُحسن استخدامها لحققت السياسة العربية الكثير، ليس من أجل غزّة وحدها، ولكن لتحسين شروط العيش في منطقة هم فيها الأغلبية، وهم الأقدر على قيادتها لو اجتمعت كلمتهم، وتوحدت شوكتهم، وانتظمت إرادتهم في مسار تحقيق المصالح العربية الكبرى.

يهدر العرب طاقاتهم في الصراعات البينية، ومن بينها الخصومة مع كل المقاومات العربية، ولستُ في معرض الدفاع عن المقاومة، فهي -عندي- ليست مُبرأة من العيوب، ولا هي خالية من الأخطاء، وارتكبت الكثير من الخطايا، ولكنها رغم ذلك تظل رصيدًا في حساب العرب عندما توزن الأمور في المنطقة.

يؤخذ على المقاومة العربية علاقتها بإيران، وهي بالفعل علاقة مقلقة في ظل تدخلات إيرانية ظاهرة ومخفية في الشأن العربي، وتعاملها الفج مع المقاومة باعتبارها رديفًا سياسيًا لها، كل هذا وأكثر منه صحيح، ولكن يبقى على صنّاع السياسة العربية إدراك أنّ حضور الدور الإيراني يعبّر في صورة من صوره عن تراجع وربما تخاذل الدور العربي.

النكوص عن الدفاع عن الحقوق العربية الشرعية والتاريخية يفتح المجال أمام التدخل الإيراني، والسياسة الإيرانية المناصرة للحق العربي - حتى لو كانت مجرد شعارات، أو محض استغلال سياسي - تحقق لنفسها أنصارًا في صفوف الرأي العام العربي، خاصة في أوقات احتدام موجات الصراع بين إسرائيل والعرب.

حتى العرب الذين يؤرقهم بقاء "حماس" في المشهد الفلسطيني والإقليمي يدركون أنّ انكسار غزّة لن يتوقف عند حدودها، وقد أثبتت السوابق أنّ شهية إسرائيل مفتوحة على احتلال الضفة الغربية بما فيها القدس العربية، ومخططاتها معدة لتنفيذ مشروع التهجير، ليتحقق أمل "إسرائيل الكبرى" على كامل أرض فلسطين التاريخية.

هزيمة إسرائيل ضرورة للسلام الحقيقي والفرصة سانحة لتبني مشروع عربي يحقق التوازن في المنطقة

مصر والأردن هما أول وأكبر الخاسرين، هما هدف عملية التهجير سواء كان قسريًا أو غير قسري، ولبنان هو الهدف المباشر فور الانتهاء من تركيع غزّة، وأراضيه الجنوبية ضمن مخططات إسرائيل الرامية إلى تحقيق الأمن الكامل لشمال فلسطين المحتلة.

كل الخريطة العربية مهددة بنصيبها من العربدة الإسرائيلية، وانكسار المقاومة يزيد من فرص فرض الرؤية الإسرائيلية للسلام على المنطقة، لهذا صارت هزيمة إسرائيل ضرورة للسلام الحقيقي، وسيضعها حرمانها من تحقيق "النصر الحاسم" في غزّة وجهًا لوجه أمام استحقاقات السلام في المنطقة.

ربما تكون الفرصة ضعيفة ولكنها ما تزال سانحة أمام السياسة العربية للخروج من حالة تمني هزيمة "حماس" إلى حالة تبني مشروع عربي يحقق التوازن في المنطقة بما يحفظ المصالح الفلسطينية، ويصون المصالح العربية في إقليم مشتعل بالنيران في كافة جنباته.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن