في السياق نفسه، وبالإضافة إلى التدخل الإمبريالي المباشر في اقتصادات الدول العربية، عن طريق سياسات الديون وفرض العقوبات الاقتصادية وإنتاج الاقتصاد التبعي؛ كانت إسرائيل - وما زالت - أداةً إمبرياليًة تحافظ على مصالح الرأسمال المالي في الشرق الأوسط خصوصًا.
بقاء الكيان الإسرائيلي مرتبط بحاجة الرأسمال الأميركي إلى اختراق وإضعاف الاقتصادات العربية وعرقلة نموها
صحيح أنّ الرأسمال المالي الأميركي عرف عدة تحوّلات، وصحيح أنّ الرهان الإمبريالي على المشرق العربي أخذ يتراجع منذ مدّة لا تقل عن عشر سنوات، وأنّ السيطرة الأميركية تتراجع لمصلحة قوى أخرى أبرزها الصين؛ غير أنّ رهانها على الكيان لم يصل بعد إلى نقطة "الصفر"، ناهيك عن إمكانات شذوذ هذا الكيان عن الاستراتيجية الأميركية وانعكاس التناقض الرأسمالي الغربي في تناقضاته الداخلية. إنّ بقاءه مرتبط بحاجة الرأسمال الأميركي إلى اختراق وإضعاف الاقتصادات العربية، وعرقلة نموها واستقلالها عن التبعية له. وعندما ترتفع الحاجة إليه، أو تصبح الإمبريالية أضعف من أن تعتمد عليه، فإما سينحل انحلالًا طبيعيًا أو بفعل المقاومة العربية.
هناك دراسات تحدثت عن الاختراق الصهيوني للاقتصادات العربية (منها دراسات كشفت خطط الكيان الصهيوني لاستهداف الزراعة المصرية، وأخرى تحدثت عن خطورته على الاقتصاد المصري، كما جاءت في كتاب عادل حسين "العلاقات الاقتصادية بين مصر وإسرائيل")، وهناك أخرى تحدثت عن وظيفته في الابتزاز لمصلحة الإمبريالية الغربية (منها دراسة لعادل حسين بعنوان "الاستقلال الوطني والقومي" تحدث فيها عن ثلاثية "الإسلام - البترول - إسرائيل" في السياسة الإمبريالية)؛ ونادرة هي تلك الدراسات التي تناولت بالبحث والتفسير خطورته المتجلية في إرباك التحولات الاقتصادية الطبيعية في الوطن العربي. ولا أدلّ على ذلك من عاملين من عوامل هذه الخطورة، ونقصد بهما: استنبات نمط مختلف من الإنتاج والاقتصاد، كذا فرض غير مباشر لسياسات اقتصادية ومالية إمبريالية.
معلوم أنّ الاقتصادات العربية لا تخرج عن صنفين: إمّا اقتصادات ناشئة مرتبطة باكتشافات النفط والغاز خاضعة لسوقها الدولية، وإمّا أخرى قديمة تعرضت للاستعمار الذي أدخلها مسارًا من التحويل القسري والتبعية الاقتصادية. في حين أنّ اقتصاد الكيان الصهيوني اقتصادٌ رأسماليٌ، تمّ نقله من الغرب إلى الوطن العربي قسرًا، لفرض التفاوت في عمق الجغرافية الاقتصادية العربية. وكان من شأن هذا التفاوت أن يفرض على الوطن العربي سياسات اقتصادية ليست ضمن مصالحه الاستراتيجية البعيدة، أي تلك التي تستهدف التنمية الاقتصادية والتحرّر من التبعية للرأسمال الغربي الإمبريالي. فبدلًا من التركيز على استراتيجية التنمية والاستقلال اضطرت الدول العربية، خاصة تلك القريبة من الكيان (ما يسمى بـ"دول الطوق")، إلى تبني سياسات مالية تسليحية، باستحضار ما يعنيه ذلك من تكييف للميزانيات والصادرات والواردات ومجالات التصنيع والخدمات وِفق ما تقتضيه تلك السياسات في إطار مقتضى أكبر هو "التقسيم الدولي للعمل"، وكأنّنا أمام إمبريالية مُضعّفة يتخبط في شراكها الوطن العربي.
هناك من يتحدث عن إسرائيل ككيان مستقل عن الوجود الرأسمالي الإمبريالي الغربي، وهناك من يريد لهذا الاحتلال أن ينتهي دون اعتبار لشروط وتحولات الإمبريالية العالمية، بل هناك من يراهن على ممارسة نوع من الضغط على هذه الإمبريالية خارج قواعد الاقتصاد السياسي العالمي.
من يبحث عن تحليل ملموس يجده في التناقضات الرأسمالية في "بلاد العم سام" لا في التجليات التفصيلية اليومية
قد يفي ذلك بغرض "الصمود" وإثارة مشاعر المقاومة وخطابها الإيديولوجي، إلا أنّ الاحتلال الإسرائيلي في جوهره الاقتصادي والاجتماعي مرتبطٌ بالإمبريالية الغربية، بقاؤه أو زواله مرتبط بمدى حاجتها إليه، بمدى إقبالها أو إدبارها.
بل إنّ السياسات التحرّرية العربية، رسمية كانت أو شعبية؛ نفسها تتأثر بواقع الرأسمال المالي الإمبريالي وتحوّلاته، فتقبل إذا أدبر، وتدبر إذا أقبل. تنحسر إذا توسع، ويشتد عودها إذا انحسر وتراجع. من يبحث عن تحليل سديد وملموس، يجده في واقع الاقتصاد الأميركي والتناقضات الرأسمالية في "بلاد العم سام"، لا في التجليات والوقائع التفصيلية اليومية.
هذا هو الفرق بين التفسير النظري والمتابعة "التجريبية الفجّة".
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")