ما كنا نخشاه يبدو أنه يمكن أن يحدث للأسف الشديد، وهو محاولة تنفيذ مخطط تهجير أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين من قطاع غزة.
ومن الواضح أنه بعد يأس الأمريكان والإسرائيليين من محاولة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية بفضل الرفض المصري القاطع، فإن واشنطن تحاول تجريب ترحيل الفلسطينيين عبر الممر أو الرصيف أو الميناء البحري الذي ينتظر الانتهاء من إنشائه خلال أيام.
كتبت في هذا المكان أكثر من مرة، عن احتمالية أن يكون الهدف من إنشاء الممر البحري هو إتاحة الفرصة لإخراج الفلسطينيين تحت ستار أن السفن ستأتي بالأساس بالمساعدات.
كتبت يوم الثلاثاء الماضي تحت عنوان: «الممر البحري الأمريكي.. و٧ مخاوف مشروعة»، وكتبت أيضا بعد أن تحدث الرئيس الأمريكي لأول مرة عن الممر البحري في خطاب عن حالة الاتحاد في ٧ مارس الماضي وعبرت بوضوح وقتها عن المخاوف من أن السفن التي ستأتي بالمساعدات قد تعود محملة بالفلسطينيين الراغبين في الهروب من هذا الهولوكست الصهيوني غير المسبوق.
الولايات المتحدة وبسبب الرفض المصري غيرت لهجتها وأعلنت أكثر من مرة رفضها لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء ولم نكن ندري أنها تخطط لتهجيرهم بطرق أخرى غير سيناء كما أعلنت رفضها لاحتلال القطاع أو تقليص مساحته عبر إنشاء مناطق أمنية آمنة. لكن ذلك كان في التصريحات الإعلامية فقط، ويبدو أنه على أرض الواقع فإن واشنطن كانت تخطط مع إسرائيل عن أفضل الطرق لتنفيذ المخطط.
إسرائيل كانت تفكر دائما بغشومية، أي تقوم بطرد الفلسطينيين وتهدم بيوتهم وتستمر في مطاردتهم من الشمال لحشرهم في الجنوب قرب الحدود المصرية. وكان قادتها يكررون دائما رغبتهم في تنفيذ مخطط التهجير تمهيدا لإعادة استيطان غزة وبناء «غوش قطيف» من جديد وسائر المستوطنات التي كانت تحيط بالقطاع.
الولايات المتحدة فكرت بمنطق تخديري للفلسطينيين والعرب واستمعنا لقادتها وكبار مسؤوليها وهم ينكرون حتى الآن موافقتهم على مخطط التهجير، أو حتى مهاجمة رفح. لكن الأمر مختلف تماما على أرض الواقع.
يوم الثلاثاء الماضي وطبقا لوثائق حكومية داخلية حصلت عليها شبكة «سي. بي. إس نيوز» الأمريكية فإن إدارة الرئيس بايدن تدرس تفاصيل الخيارات المحتملة لقبول فلسطينيين من غزة كلاجئين.
كبار المسؤولين ناقشوا مع بعض الوكالات الفيدرالية مقترحات محددة منها مثلا قبول الفلسطينيين الذين لديهم أقارب في الولايات المتحدة أو على صلة مع مواطنين أمريكيين أو مقيمين في الولايات المتحدة أو اضطرتهم الظروف للنزوح من غزة.
ومن يجتاز الفحوصات الأمنية فسوف يكون مؤهلا للسفر إلى الولايات المتحدة والحصول على صفة لاجئ وهو الأمر الذي يضمن لهم الإقامة الدائمة ومزايا إعادة التوطين والعثور على سكن وصولا للحصول على الجنسية الأمريكية.
المتحدث باسم البيت الأبيض قال للشبكة الأمريكية أن أمريكا ترفض تماما النقل القسري للفلسطينيين من قطاع غزة، أو الضفة.
والمتحدث محق تماما في كلامه، لكن بقية الصورة هي أن إسرائيل تكفلت وتتكفل بخلق الظروف التي تجعل عددا لا بأس به من الفلسطينيين يفكرون في البحث عن طرق للحفاظ على حياتهم بكل السبل.
لا يوجد عاقل يشكك في وطنية الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه، لكن كثيرا منا لا يدركون الصورة على أرض الواقع، فحينما يدمر جيش الاحتلال معظم مباني غزة ومنشآتها وطرقها ومدارسها ومستشفياتها، ويجعل الحياة مستحيلة، ثم إنه يقتل الجميع النساء والأطفال والشباب، وحتى الحيوانات، ويقطع المياه والغاز والكهرباء. حينما يحدث ذلك، فإن الحياة تصير مستحيلة، ويلجأ البعض للهرب من المكان بكل السبل أملا في العودة حينما تتغير الظروف. وبالطبع من يخرج من فلسطين يصعب أن تعيده إسرائيل مرة أخرى.
تسريبات «سي بي. إس نيوز» تكشف لنا بوضوح أن الولايات المتحدة شريك أساسي ليس فقط في العدوان وإمداد إسرائيل بالمال والسلاح والدعم السياسي والدبلوماسي عبر الفيتو، بل ونقل الفلسطينيين من غزة للخارج.
الآن يتضح لنا جليا الهدف الحقيقي من إنشاء الميناء البحري، وهو ليس إدخال المساعدات، بل التموضع العسكري وحقول الغاز ومواجهة الصين وروسيا أيضا.
فلو كانت واشنطن تريد إدخال المساعدات فعلا وفقط لكانت أقنعت أو أجبرت إسرائيل على سرعة إدخالها عبر معبر رفح، أو فتح المعابر الستة بين إسرائيل والقطاع، أو إقناعها بوقف إطلاق النار من الأساس.
التطور الأخير شديد الخطورة لأنه يكشف جزءا مهما من ملامح الصورة الكبرى التي يراد لها أن تكتمل وبالتالي فأغلب الظن أن الأسوأ لم يأت بعد.
فانتبهوا يا أولي الألباب.
("الشروق") المصرية