ومع ذلك، هل ثمة داعٍ لليأس؟.. الإجابة "لا" كبيرة جدًا، فهناك برغم بشاعة وفظاعة المشهد الدامي الراهن، بقعة ضوء كبيرة صنعها ويوسع من حجمها كل يوم أهلنا الصامدون في غزّة وفلسطين عمومًا، إذ يُعلّمون الدنيا وينافسون أنفسهم في اجتراح آيات معجزات من البطولة والبسالة وإبداع وسائل مقاومة تتحدى آلة القتل والهمجية الصهيونية - الأمريكية.
أنظر يا عزيزي إلى مشاهد ووقائع حرب الإبادة الحالية في غزّة، وتأمّل فيها لتكتشف كيف صنع أهلنا هناك بشلال هائل من الدماء لوحة صمود وكفاح أسطوريين، هزّت هذه اللوحة بعنف ضمير الإنسانية جمعاء، وجعلت من "قضية فلسطين" قضية الإنسانية الأولى لا تنافسها ولا تنازعها على صدارة الاهتمام الإنساني قضية أخرى، ومن ثم فقد لحق بالعدو ومناصريه هزيمة استراتيجية وأخلاقية ساحقة أصابت قلب شرعية وجوده ككيان عنصري مقيت، وذكّرتنا جميعًا بحقيقة كونه أداة وظيفية للقوى الإمبريالية الغربية.
لا سبيل للانتصار ودحر العدوان الخارجي إلا بعدما ننتصر على عدو الداخل وننجح في إنهاء التأخر والتخلف
باختصار هذا يجعلنا على يقين أنّ قضيتنا العادلة وأرضنا المسروقة لن تضيع ولن يطويها النسيان أبدًا مهما طال الزمن.
وبعد.. قد يبدو عند البعض أنّ ما فات من سطور، كلام يقطر بالعواطف ويخاصم التفكير الواقعي والعملي، ويعترف العبد لله بأنّ عواطفه جياشة فعلًا، لكنني مؤمن بحقيقتين اثنتين، أولاهما؛ أنّ العاطفة في ما يخص شؤون وقضايا الإنسان والأوطان والأمم، حاضرة دائمًا وهي ليست عيبًا، بالعكس هي ميزة باعتبارها منبعًا للإخلاص والحماس ومحفزا للعقل أيضًا، والحقيقة الثانية؛ أنّ احتفاظ أي شعب بقدرته على المقاومة وتحدي الهزيمة ودواعي اليأس والقنوط، هو ضمن أهم شروط انتصاره وانتزاع حقوقه وهزيمة قوى الشر والقهر والعنصرية.
ولكي تتضح الفكرة أكثر، أعود إلى مشهد جرائم العدو الوحشية الأخيرة التي يرتكبها ضد أهلنا في فلسطين كلها - أي من البحر إلى النهر - بينما هم صامدون يقاومون ببسالة أسطورية الإبادة واستكمال سرقة وطنهم ومقدساتهم، فمن الناحية السياسية والعملية أسقط شلال الدماء الطاهرة التي بذلها عشرات آلاف الشهداء والمصابين تمامًا، أوهام "موت قضية" فلسطين، وضياعها النهائي التي بشرنا بها قطيع المهزومين البؤساء.
غير أنّ الحماس والعواطف - على أهميتهما - يجب أن لا تستغرقنا فننسى أنّ هناك ضرورة حيوية للاستفادة من بطولات وتضحيات أهلنا في فلسطين المحتلة وتحويلها إلى رصيد قوي على جبهة الحرب السياسية مع العدو وحلفائه.. يعني مثلًا لا بد أن تجتهد النخب الوطنية على امتداد الوطن العربي لإشاعة وعي مفارق ومعاكس تمامًا للهلاوس والأوهام التي نمنا وقعدنا عليها محبطين ردحًا طويلًا من الزمن.
هذا الوعي الجديد يبدأ بإدراك حقيقة بسيطة مؤداها أنه لا سبيل أبدًا للانتصار ودحر العدوان الخارجي إلا بعدما ننتصر على عدو الداخل وننجح في إنهاء التأخر والتخلف والخراب ونمسح آثار عدوان عصابات اللصوص والإرهاب المحلية على أرواحنا وأفهامنا، ونشرع فورًا في الجهاد الأكبر ونبدأ في بناء أسباب قوتنا وتحررنا من القهر والظلم والاستبداد والاستغلال والتخلف والبؤس بكل صوره وأشكاله، ومن ثم نستعيد وجودنا الفاعل على سطح هذا الكوكب.
خطر المشروع الصهيوني لن يتوقف أبدًا عند حدود فلسطين
وإلى أن يكتمل هذا الوعي وننجز تلك المهمة لا مفر من الشروع الفوري في البحث عن عقولنا الضائعة وانتشالها من بين ركام هائل من الأوهام والضلالات، ومن ثم غاب عن إدراك الكثيرين حقيقتان بسيطتان ساطعتان، أولاهما؛ أنّ المشروع الصهيوني تجسّد على أرض فلسطين وتمركز فوق أشلاء مجتمعها وشعبها، بيد أنّ خطره لم ولن يتوقف أبدًا عند حدودها المرسومة على الخريطة.. هذا هو درس الماضي البعيد والقريب وخلاصة وقائع الحاضر المعيش.
أما الحقيقة الثانية؛ فتتعلق بذلك الاختراع العجيب الذي لم يسبقنا إليه أحد في هذه الدنيا، إذ يقوم على إسقاط كل ممارسة لحق المقاومة بشتى صورها والتوقف عن إلحاق أي أذى بالعدو، والاكتفاء بالرهان الخرافي على إمكانية إقناعه بالنقاش والتفاوض الأبدي بأن يتخلى عن وطن سرقه بالقوة الغاشمة.
(خاص "عروبة 22")