رغم الرفض المصري الحاسم لاجتياح مدينة رفح وموقف الولايات المتحدة الرافض لما سماه الرئيس بايدن عملية كبيرة أو شاملة في رفح، والتأييد الدولي لهذين الموقفين بشكل أو بآخر، بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في دخول «حقل الألغام» رغم كل تلك التحذيرات عبر عملية سماها «محدودة» في مدينة رفح لتطويق المدينة وإكمال سياسة حصار قطاع غزة تماما. العملية الإسرائيلية المحدودة شملت الاستيلاء أو السيطرة على الجانب الفلسطيني من معبر رفح والتقاط صور لآليات عسكرية إسرائيلية تسير في محور صلاح الدين «فلادليفي».
الاستيلاء على الجانب الفلسطيني من المعبر يعني وقفًا أو على الأقل تحكمًا كاملًا في دخول المساعدات إلى القطاع المنهك والمعرض للمجاعة، بينما الوجود، ولو الرمزي، في محور صلاح الدين يعني استفزازًا واضحًا لمصر، ولعبًا كما يقولون بالنار، حيث ينظم الوجود في ذلك المحور اتفاقا بين مصر وإسرائيل تم توقيعه في 2005 بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وتعديله اللاحق في عام 2021.
دخول نتنياهو إلى حقل ألغام رفح بينما المفاوضات بين إسرائيل وحماس جارية بل وبعد ساعات من إعلان حماس موافقتها على المقترح المصري للتهدئة وصفقة تبادل الأسرى يشير بوضوح إلى إصرار نتنياهو على تفجير المسار التفاوضي، أو الأقل الظهور أمام اليمين المتطرف في حكومته على أنه يعمل حتى اللحظة الأخيرة لاقتحام رفح رغم الألغام التي قد تنفجر في وجه الجميع، ويثبت لهم أنه لم يتراجع تحت كل الضغوط حتى ولو كانت أمريكية. هذا الموقف من نتنياهو يأتي أيضا بسبب ما يمكن تسميته «الارتباك» الذي أحدثته موافقة حماس في اللحظات الأخيرة على المقترح المصري، بينما كان نتنياهو يعمل على نسج «فخ» لحماس قائم على أنها سترفض بالضرورة الموافقة على المقترح المصري وهو ما عززه قيام حماس باستهداف معبر كرم أبو سالم، ومن ثم يستخدم كل ذلك لشن حرب إعلامية وسياسية على حماس محملا إياها مسئولية انهيار المفاوضات بما يتيح له التخفف من الضغط وتنفيذ عمليته الشاملة في رفح، إلا أن رد حماس بالموافقة على المقترح قد أعاده أو اضطره إلى بديل العملية المحدودة إرضاء للولايات المتحدة ولليمين المتطرف الذي يصر على اجتياح رفح أيا كانت الضغوط وأيا كانت العواقب في محاولة من ذلك اليمين المتطرف لجر الجميع وليس فقط إسرائيل إلى الجحيم، خاصة إذا ما نفد صبر مصر ووجدت نفسها في موقف لا يمكن معه إلا تغيير سياستها في التعامل مع الجانب الإسرائيلي بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات قد تطال معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية نفسها. فالمعاهدة تتعرض منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر لما يقرب من سبعة أشهر لامتحان أو تحد هو الأقسى والأخطر منذ توقيعها عام 1979، والتي تمثل على حد تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان، العجلة التي لو أزيلت فإن العربة لن تسير مرة أخرى. أما نتنياهو فيصر على الذهاب بالمعاهدة إلى حافة الهاوية مدعيا أن اجتياح رفح لا يخل بالمعاهدة، بينما تنظر مصر إلى المعاهدة باعتبارها حجر الزاوية للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، انطلاقا من مبدئها الثابت بالسعي نحو حل كل الخلافات بالطرق السلمية في إطار الالتزام بكل المواثيق والمعاهدات الثنائية والدولية.
وخلال العشر السنوات الأخيرة شهدت العلاقات المصرية الإسرائيلية نوعا من الهدوء سمح بتعديل بنود اتفاقية دولية أمنية مع إسرائيل في السابع من نوفمبر 2021، لتعزيز الوجود المصري في المنطقة الحدودية برفح، وتراجع تناول معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في النقاش العام بالشكل الذي حدث خلال الفترة 2011 إلى 2013 التي شهدت الكثير من اللغط حول المعاهدة ومطالبات بضرورة تعديلها أو إلغائها، وصولا إلى أن أصبح الموقف من المعاهدة ومن السلام بصفة عامة مع إسرائيل واحدا من المحاور الأساسية في برامج المرشحين لرئاسة الجمهورية عام 2012 في تطور لم تعهده مسيرة العلاقات المصرية الإسرائيلية.
الآن تصر إسرائيل، في ظل تقاعس دولي واضح، على وضع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية على المحك على نحو ما نقلت وكالة أسوشيتد برس يوم 11 فبراير الماضي، إذ أكدت أن مصر قد تعلق معاهدة السلام إذا غزت القوات الإسرائيلية رفح. وهو الأمر نفسه الذي أكدته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية 10 فبراير الماضي بقولها إذا اجتاح الجيش الإسرائيلي رفح، فإن ذلك سيكون بمثابة انتهاك من شأنه أن يعلق فعليا معاهدة السلام. أما مصر الرسمية فلم يخرج عنها ما يشير إلى التفكير في تعليق أو إلغاء المعاهدة، إذ أكد وزير الخارجية، سامح شكري، في 12 فبراير 2024، أن «مصر ملتزمة باتفاقية السلام مع إسرائيل التي حافظت عليها لخمسة وأربعين عاما». وهو الأمر الذي يعد التزاما راسخا بالسياسة المصرية التي تحترم التزاماتها وتنظر بكل تقدير لأهمية معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وتعمل دائما على وضعها على الطريق الصحيح وتجنيبها مخاطر «لعبة حافة الهاوية» التي يمارسها نتنياهو، وتعمل ليل نهار للوصول إلى اتفاق تهدئة وتبادل الأسرى، لتقطع الطريق على نتنياهو وتفشل مساعيه في فتح أبواب الجحيم والفوضى على مصاريعها في منطقة الشرق الأوسط برمتها.
("الأهرام") المصرية