تقدير موقف

الفساد الحكومي أرض خصبة لنظريات المؤامرة: أدلة جديدة (2/2)

تطرقنا في الجزء الأول من هذا المقال إلى ظاهرة المؤامرة، انطلاقًا من نتائج مسح قامت به مؤسّسة YouGov Cambridge في 22 بلدًا غربيًا وآسيويًا وأفريقيًا، بما في ذلك تفشي خطاب المؤامرة في الدول العربية، حيث تمّ استجواب عيّنة ممثّلة في تلك البلدان حول مختلف الأفكار التآمرية المنتشرة في العالم لمعرفة مستوى الاعتقاد في صحة تلك النظريات التآمرية لدى مواطنيها. ونتطرّق في الجزء الثاني إلى معطيات جديدة، انطلاقًا من عمل بحثي حديث الإصدار حول الموضوع نفسه، خاصّة أنّه يتضمن معطيات قلّما تمّ الخوض فيها أو الانتباه إلى أهميتها.

الفساد الحكومي أرض خصبة لنظريات المؤامرة: أدلة جديدة (2/2)

بالعودة إلى المسح سالف الذكر، بقيت الإشارة إلى أنّه في العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بيّنت الدراسات أنّ البلدان التي لديها دخل منخفض وتسود فيها تفاوتات اجتماعية كبيرة ومخاطر اجتماعية تهدد الفرد مثل انتشار جريمة القتل والبطالة المرتفعة ولديها ضعف في التنمية البشرية، يكون الأفراد فيها أكثر تأثّرًا بالاعتقاد في وجود قوى خفية مسؤولة عن ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية الصعبة.

كما ظهر أنّ البلدان محدودة الديمقراطية والتي تقيّد حرية التعبير والإعلام التي تسود فيها النزعات التسلطية والاشتراكية تنتشر فيها نظريات تقول إنّ النظام السياسي تحكمه نخب نافذة خفية تعمل لتحقيق مصالحها وحدها رغم وجود حكومات منتخبة ليس لديها سيطرة سياسية فعلية.

لكن دراسة جديدة بقلم الثنائي لوران كوردونييه وفلوريان كافييرو، وجاءت تحت عنوان "الفساد في القطاع العام أرضٌ خصبةٌ لمعتقدات المؤامرة: مقارنة بين 26 دولة غربية وغير غربية"، (2024)، قامت بمراجعة الدراسات السابقة أعلاه عن العوامل المختلفة المشجعة على انشار نظريات المؤامرة في العالم، حيث وجدت أنّ انتشار نظريات المؤامرة، مرتبطٌ أكثر بمستوى الفساد في القطاع الحكومي، خاصّة في البلدان الآسيوية والأفريقية التي أظهرت مستويات عالية من الفساد في القطاع الحكومي، كما اتضح أنّ المواطنين فيها يعتقدون في صحة العديد من نظريات المؤامرة لتفسير الأحداث المعروضة في المقال السابق.

في جوّ عدم الشفافية الحكومية وعدم الثقة في المؤسسات تتكوّن أرض خصبة لانتشار مختلف نظريات المؤامرة

تمّ تعريف الفساد في القطاع الحكومي في هذا الدراسة أنّه اعتماد الشخص على السلطة العامة من أجل تحقيق المنفعة الخاصة، كما تمّ الاعتماد على مؤشر إدراك الفساد (سُلّم من 100 نقطة) الذي تشرف عليه منظمة الشفافية الدولية، وتمّ الاعتماد على رأي الخبراء حول تقديرهم لمستوى الفساد في البلد وليس الجمهور أو رجال الأعمال حتى تضمن الدراسة عدم التحيّز.

ما يُفسّر العلاقة بين ارتباط انتشار الفساد الحكومي بانتشار نظريات المؤامرة هو أنّ البلدان التي فيها قطاع حكومي ضخم وفاسد، وليس للمواطنين فيها فرص الوصول إلى المعلومات الرسمية، يسود الاعتقاد لدى الناس أنّ هناك قوى داخل الحكومة تقوم بإخفاء الحقائق الاقتصادية الهامة عن المواطنين وتسود عدم الثقة في المعلومات التي تقدّمها الحكومة، بحيث يلجأ المواطنون إلى المصادر غير الرسمية لمعرفة المعلومات عن الفساد.

في هذا الجوّ المليء بعدم الشفافية الحكومية وعدم ثقة المواطنين في المؤسسات، تتكوّن أرض خصبة لانتشار مختلف نظريات المؤامرة حول إدارة الشأن العام من قبل جماعات نافذة خفية قوية، وهكذا تتعزّز القناعات لدى المواطنين بوجود قوى خفية تتلاعب بالجميع وهكذا تنغلق دائرة نظرية التآمر على أصحابها في تلك البلدان.

بيّنت نتائج هذه الدراسة أنّ القيمة المتوسطة للاعتقاد في مختلف نظريات المؤامرة لدى البلدان الغربية (عددها 13) بلغت 21.10 نقطة، وهي أقل من القيمة المتوسطة في البلدان الأفريقية والآسيوية (عددها 8)، حيث بلغت 23.23 نقطة. ووجدت الدراسة أنّ العامل الحاسم الذي يميّز بين انتشار نظريات المؤامرة بين هذه البلدان هو مستوى الفساد في القطاع الحكومي.

لقد أظهرت الدراسة أعلاه أنّ العالم العربي يشترك مع تركيا وبلدان أفريقية (نيجريا وجنوب أفريقيا وكينيا) والمكسيك والهند وروسيا وإندونيسيا في جملة من السمات الاقتصادية والسياسية بصفتها بلدان متوسطة الدخل أو فقيرة وبها ديمقراطية محدودة أو مقيّدة، وتشترك في أمرين مرتبطين: انتشار الفساد في القطاع الحكومي، والاعتقاد في وجود مؤامرات وراء كل الأحداث التي عُرضت في الجزء الأول من المقال.

الخطاب الشعبوي يتبنّى نظريات المؤامرة لدى مستمعيه من الجمهور في تفسير الأحداث الوطنية والدولية

عندما يعيش المواطنون في بلدان يُهيمن فيها الفساد على القطاع الحكومي ويفقدون الثقة في المؤسّسات الحكومية ويتأكد الاعتقاد لديهم أنّ المعلومات الرسمية غير صحيحة، أو أنّ الحكومة تكذب عليهم أو تخفي عنهم وقائع هامة، فإنّ هذا السياق الفاسد سيجعل نظريات المؤامرة قابلة للتصديق في نظر الأغلبية.

عندما يعتقد المزيد من المواطنين أنّهم لا يسيطرون على الحياة السياسية، وأنّ هناك قوى خفية تدير كل شيء لصالحها من وراء ستار وتتلاعب بالمؤسّسات الحكومية وغير الحكومية، فهذا يعزّز في وسط المواطنين مشاعر الإحباط واليأس، فيُصبحون أكثر عرضة لتصديق القصص والتفسيرات التي يقدّمها الخطاب الشعبوي الذي يتبنّى نظريات المؤامرة نفسها لدى مستمعيه من الجمهور في تفسير الأحداث الوطنية والدولية، وهكذا تنغلق الدائرة التآمرية وتقفل على أصحابها، وهذا عينُ ما يخشاه الجميع في الولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية القادمة حيث إنّ ترامب قد يصل للحكم بفضل هذه التوجهات الشعبوية.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن