سواء كان ما جرى اغتيالًا سياسيًا كما يقول البيان الصادر عن جماعة لم تكن معروفة، أو كان جريمة جنائية كما يقول البيان المصري الرسمي، فردود الفعل التلقائية للمصريين على مواقع التواصل الاجتماعي كانت كاشفة لما هو معروف، وإن حاول بعض من لا يدركون حقائق الأمن القومي المصري أن يقفز عليه: المصريون يعرفون عدوهم.
في التاسع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1977، وبعد ثلاثين عامًا من النكبة، وقبل خمسين عامًا من أيامنا تلك، وتحت عنوان "البحث عن السلام العادل" وقف السادات في الكنيست الإسرائيلي ليلقي خطابه الشهير الذي تحدث فيه عن سلام عادل "يعيد الحقوق لأصحابها"، معتبرًا أنّ حرب أكتوبر هي "آخر الحروب"، وأنه لم يعد بين الإسرائيليين والعرب، بعد أكتوبر، ومبادرته تلك غير "الحاجز النفسي" الذي اعتبر أنه يشكل 70٪ من المشكلة.
لم يكن السادات مخطئًا بالتأكيد حين قال إنّ "إعادة الحقوق لأصحابها" كفيل بأن يأتي بالسلام. ولكن الأمنيات الطيبة لم تكن أبدًا وحدها كفيلة ببناء الوقائع على الأرض.
المصريون "الناس" أدركوا أنّ في إسرائيل من يضع التطبيع هدفًا يخفي وراءه حقيقة خططه لشرق أوسط "إسرائيلي"
كان من حق السادات أن يحلم بأنّ "ما مضى هو آخر الحروب ونهاية الآلام، وأنّ ما هو قادم هو البداية الجديدة للحياة الجديدة، حياة الحب والخير والحرية والسلام"، كما جاء في نص كلمته، وكان من حق السادات أن يحلم بأنّ "جدارًا من التخويف بالقوة، القادرة على اكتساح الأمّة العربية، من أقصاها إلى أقصاها، والذي يهدد دائمًا بالذراع الطويل القادر على الوصول إلى أي موقع، والذي يحذرنا من الإبادة والفناء، إذا نحن حاولنا أن نستخدم حقنا المشروع في تحرير أرضنا المحتلة.. قد سقط، ولم يبقَ غير الحاجز النفسي الذي يمكن بصدقٍ وإيمانٍ وإخلاص إزالته".
كان من حق السادات أن يحلم، فكل الأحلام مشروعة، ولكن للواقع عادة حسابات أخرى، والنصوص الأدبية مكانها كتب البلاغة، أما صياغة الواقع فأظنّها اتضحت فيما جرى خلال 47 عامًا من هذا الخطاب ذي اللغة الرفيعة. لم تسمح إسرائيل أبدًا بأن تكون للفلسطينيين دولة رغمًا عن أنف ما أقرّته بذاتها بتوقيعها على اتفاقات أوسلو. ولم تتخلَ إسرائيل أبدًا عن هدفها التوسعي الصهيوني المعلن بإقامة إسرائيل الكبرى. ولم تعترف إسرائيل أبدًا بأنّ عليها الانسحاب إلى حدود 1967، رغم أنف كل القرارات الأممية، بل فضلًا عن ذلك، واغترارًا بالقوة التي أشار إليها السادات في خطابه، لم يتردد الإسرائيليون في غزو بيروت (1982)، ولا في الإغارة على حمام الشط في تونس (1985)، ولا في حصار ياسر عرفات في المقاطعة (2002)، ليس فقط استهانة باتفاقات أوسلو، بل وفي رد عملي على مبادرة السلام العربية (2002)، ناهيك عن أربع حروب دموية على قطاع غزّة المحاصر (2009، 2012، 2014، 2021).
الإدراك الشعبي لحقيقة العدو ظهر جليًا إبان ثورة يناير
لستُ هنا في معرض الحديث عن كامب ديفيد وما أخذتنا إليه، فالأمر قُتل بحثًا بدايةً من استقالة وزراء الخارجية الثلاثة في حينه احتجاجًا، ولكني أتحدث هنا عن المصريين "الناس" الذين رغم الاتفاقات، والمعاهدات، ونوبل اللامعة، وبريق الصياغات الدبلوماسية المخادعة، أدركوا مبكرًا أن لا عدل هناك، وأنّ الحقوق لن ترجع هكذا لأصحابها، وأنّ في إسرائيل من يضع التطبيع، لا السلام هدفًا يخفي وراءه حقيقة خططه لشرق أوسط "إسرائيلي" جديد. وأنّ الممارسات، والنوايا الإسرائيلية أثبتت غير مرّة أنّ "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة"، فكان أن ظهر تنظيم "ثورة مصر" 1984 من رحم الدولة التي كانت تنتمي يومًا إلى هؤلاء "الناس"، فإلى جانب خالد -الابن الأكبر لجمال عبد الناصر-، كان على لائحة الماثلين في قفص الاتهام، والذين طالبت النيابة يومها بإعدامهم، محمود نور الدين الذي كان مسؤولًا عن متابعة النشاط الصهيوني في مكتب المخابرات العامة في السفارة المصرية بلندن، قبل أن يستقيل مع غيره احتجاجًا على زيارة السادات للقدس. وكان من اللافت أنّ أولى عمليات التنظيم الناجحة هي اغتيال ضابط في الموساد حال خروجه من منزله في إحدى ضواحي القاهرة.
الإدراك الشعبي لحقيقة العدو، ظهر بعد ذلك جليًا إبان ثورة يناير، عندما تمكن نشطاؤها -المتهمين إعلاميًا بالعمالة لأمريكا وإسرائيل!- من محاصرة السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وإنزال العلم الإسرائيلي للمرة الأولى منذ عام 1979، وإغلاق السفارة التي لم يكن من الممكن أن تعيد فتح أبوابها إلا بعد أربع سنوات كاملة بعد أن "استقرت" الأمور.
... وللحديث بقية في المقال القادم.
(خاص "عروبة 22")