تقدير موقف

"الحاجز النفسي".. المصريون وإسرائيل (2/2)

بِلغة الأمن القومي المجرّدة، لا العاطفة، وبغض النظر عن النوايا الإسرائيلية "العدوانية التوسعية" التي لا يصلح معها سلام "حقيقي"، ولا تطبيع "طبيعي"، والتي تبدت واضحة في تصريحات عدة لمسؤولين إسرائيليين كبار في الأشهر السبعة "الكاشفة" الماضية، وحتى لا يخدعنا البعض زورًا بأنها لم تكن أكثر من ردود "انفعالية" على ما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. أمامي وثائق إسرائيلية تعود لسنوات مضت، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

فبعد عامين من محاضرة له في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (أبريل/نيسان 2011) تحت عنوان «كيف تواجه إسرائيل رياح التغيير في الشرق الأوسط» خصّصها للحديث عن مخاطر الربيع العربي على إسرائيل، أعد عاموس يدلين؛ الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية "أمان" تقريرًا للمعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي (INSS) يشرح فيه، "كيف نجحت إسرائيل في الالتفاف على التحديات الخمسة التي واجهتها جراء الحركات الشعبية إبان الربيع العربي، لتحافظ على مكانتها الجيوسياسية"، معتمدةً سياستها التقليدية "المراوغة" في إدارة الصراع مع تكريس الوقائع على الأرض، بطريقة تجعل في النهاية "حل الدولتين" ضربًا من المستحيل.

بعد ذلك بسنوات، وفي 15 سبتمبر/أيلول 2016، وفي معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ذاته تحدث موشيه يعلون وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، عن «استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي»، مؤكدًا على ما أسماه "ثوابت إسحاق رابين"؛ عرّاب أوسلو، والذي يظل حادث اغتياله دالًا:

1. "الكيان" الفلسطيني سيكون أقل من دولة.

2. وادي الأردن سيظل تحت السيادة الإسرائيلية.

3. القدس ستظل موحّدة، وستظل عاصمة لإسرائيل.

4. بناء "المستوطنات" حق لليهود في أي مكان من "أرض إسرائيل".

لا جديد هناك، ولا اختلاف بين ما نسمعه الآن، وما سمعناه قبل سنوات، ولكننا ننسى، أو ربما نتناسى.

"الاغترار بالقوة" المسؤول عن الحاجز النفسي الذي اعتقد البعض أنّ من الوارد إزالته خضوعًا أو بحثًا عن منفعة

وبعد،،

فقد تختلف التأويلات القانونية، ذات الرائحة السياسية/الإعلامية لما فعلته القوات الإسرائيلية باجتياحها معبر رفح، واقترابها هكذا من الحدود المصرية قبل أيام فيما طرح تساؤلات - كانت إجاباتها سياسية الطابع - عن مدى خرق إسرائيل لاتفاقات كامب ديفيد وملاحقها وتوابعها، ولكن الاستهانة الإسرائيلية بالأمر كانت بادية سواء في التجاهل الدبلوماسي، أو في الصور التي نشرها الجنود الإسرائيليون على "السوشيال ميديا". هو "الاغترار بالقوة" المسؤول عن الحاجز النفسي والذي تحدث عنه السادات في خطابه الشهير بالكنيست، والذي اعتقد البعض أنّ من الوارد إزالته خضوعًا للأمر الواقع، أو بحثًا عن منفعة "سلطوية" آنية، أو رضوخًا لضغوط هذا أو ذاك، وليس كنتيجة طبيعية للعدل وإعادة الحقوق لأصحابها، والذي، رغم ما يزيد على أربعة عقود على خطاب السادات لم يحدث أبدًا، وفي غيابه، يعرف العاقلون - لا المنبطحون - أن لا أمن، ولا سلام. لا في مستوطنة في غلاف غزّة، ولا في تلك المدينة الساحلية المصرية.

كان المصريون صادقين حين اصطفوا ليرحّبوا بالسادات عند عودته من القدس في هذا اليوم البعيد، ولكنهم كانوا أيضًا صادقين حين كانوا في صف ما قام به خالد عبد الناصر ورفاقه في تنظيم "ثورة مصر"، وحين وضعوا الجنديين القادمين من ريف مصر ومن أزقة أحيائها الشعبية (سليمان خاطر، ومحمد صلاح) على لائحة الأبطال الشعبيين، ثم حين احتفوا على "السوشيال ميديا" بواقعة الإسكندرية الأخيرة. ليس في ما فعلوه مع السادات أو بعد ذلك ثمة تناقض. هم ببساطة حين رحبوا بالسادات انتظروا سلامًا يقوم على العدل، ثم كان أن تأكدوا أنّ في إسرائيل من لا يريد ذلك.

السلام لن يكون اسمًا على مسمى ما لم يكن قائمًا على العدالة وليس على احتلال

على الذين يبحثون عن الأمن والسلام أن يبحثوا عن العدل أولًا، وأن يعيدوا الحقوق لأصحابها أولًا. وأن يعيدوا الاستماع إلى مرافعة محمود نور الدين أمام المحكمة "المصرية"، وأن يتذكروا أن في خطاب السادات ذاته الذي تحدث فيه عن ضرورة إزالة "الحاجز النفسي". كانت العبارة المفتاح: "إنّ السلام لن يكون اسمًا على مسمى، ما لم يكن قائمًا على العدالة، وليس على احتلال.. وأنه حتى لو تحقق السلام بين دول المواجهة كلها وإسرائيل، بغير حل عادل للمشكلة الفلسطينية، فإنَّ ذلك لن يأتي أبدًا بالسلام".

هل هناك في تل أبيب، أو في واشنطن، أو بين المطبّعين العرب الذين يلخصون المسألة كلها في "الحاجز النفسي" من يدرك هذا؟ أحسب أنّ هذا هو السؤال.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن