تقدير موقف

فرنسا والشرق الأوسط.. ونقض "العقيدة الديجولية"

مشاعر سلبية تملّكتني عقب انتهاء المحاضرة التي دعيت للاستماع لها لأحد الوزراء الفرنسيين السابقين النافذين، قبل أكثر من أسبوعين، حول الموقف الفرنسي من أزمات الشرق الأوسط عمومًا والصراع الفلسطيني الإسرائيلي خصوصًا. سبب المشاعر السلبية نتج - ليس فقط - لحدة المُحاضر، وإدانته للمقاومة، وغيبة الحديث عن الملفات الأساسية للصراع، وإنما لأنّ أطروحة الرجل تمثّل نقضًا لعقيدة ديجول المتوازنة حيال الشرق الأوسط، وتعبّر عن الموقف الرسمي لمؤسسة الرئاسة الفرنسية. وهو أمر دفعني للبحث عن لماذا ومتى حدث الانقلاب على العقيدة الديجولية الشرق أوسطية؟.

فرنسا والشرق الأوسط.. ونقض

لقد اتبع الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول (1890 ــ 1970) سياسة خارجية متوازنة وعادلة تجاه القضايا الدولية العالقة منذ تولى سدة الرئاسة الفرنسية وتأسيسه لما بات يُعرف في أدبيات السياسة العالمية بالجمهورية الخامسة (1959 ــ 1969) نهاية الخمسينيات، كذلك مستقلة عن المعسكرين الغربي/الرأسمالي/الأطلسي من جهة، والشرقي/الاشتراكي من جهة أخرى. ويذكر له التاريخ كيف عالج تداعيات أزمة العدوان الثلاثي في 1956، وموقفه التاريخي في إدانة احتلال الأراضي العربية إثر حرب 1967.

وهي السياسة التي واصل خلفاؤه اتباعها بدرجة أو أخرى. ما يسّر لفرنسا أن تلعب دور الوسيط المقبول من كل الأطراف على مدى عقود، وأن يُنظر لها، حسب أحد الباحثين الفرنسيين في دراسة صدرت مؤخرًا، باعتبارها "كليم نافذ، ومُحاور مؤثر، يُتيح ترتيب حيّز تنفُس أو إيجاد فضاء تنسُم إزاء الضغوط الأمريكية، وكذلك إزاء الاتحاد السوفيتي، حتى حدود العام 1989" (إبان الحرب الباردة وحتى سقوط جدار برلين). واستمر هذا الدور في عهود بومبيدو، وديستان، وميتران، وشيراك بدرجة أو أخرى.

لم تعد فرنسا وقد نهجت مسارًا مغايرًا "للمبدأ الديجولي" وسيطًا نزيهًا أو قوة فاعلة تقدّم رؤى متوازنة لجميع الأطراف

تشير بعض الدراسات إلى أنّ بداية الرجوع عن "المبدأ الديجولي" حيال الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية قد بدأ مع منتصف مدة الرئاسة الثانية للرئيس جاك شيراك، إذ بات واضحًا تباين المصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا فيما يتعلق بالملفات: اللبنانية، والفلسطينية، والإيرانية، والعراقية. ما دفع "شيراك" إلى تقديم بعض التنازلات لأمريكا وإسرائيل بما "لم تنل بصورة جوهرية من المبادئ المُتضمَنة في السياسة الخارجية المُتبعة منذ الستينيات".

بيد أنّ نقطة التحوّل الحاسمة والانحرافة الواضحة عن العقيدة الديجولية: الاستقلالية، والمتوازنة، كانت مع الرئيس اليميني نيكولاي ساركوزي (تولى الحكم سنة 2007) الذي عمل على تأكيد "الصداقة التي تربط الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا". كما أعلن في إحدى المداخلات الدبلوماسية العربية نصًا: "أقول لكم بوضوح، أنا صديق إسرائيل". ومع مرور الوقت تماهى الموقف الفرنسي مع الموقف الأمريكي. واصل الرئيس اليساري فرانسوا هولاند (تولى الحكم سنة 2012) سياسة "النقض" لمبدأ ديجول، ويشار إلى أنه في المدة الرئاسية الوحيدة التي حصل عليها هولاند قد دعم الحرب الإسرائيلية الخاطفة/القصيرة على غزّة سنة 2014، كما لم يُخفِ صداقته لنتنياهو. ومن ثم يمكن القول إنّ فترتَي رئاسة ساركوزي وهولاند مثّلا مسارًا مغايرًا للسياسة الخارجية للجمهورية الخامسة.

الخلاصة لم تعد فرنسا وقد نهجت مسارًا مغايرًا "للمبدأ الديجولي" وسيطًا نزيهًا، أو قوة فاعلة مستقلة تقدّم رؤى متوازنة لجميع الأطراف. وفي ضوء ما سبق، يذكّرنا أحد الباحثين كيف تعرّضت فرنسا، ولأول مرة منذ حرب الجزائر، لحرق الأعلام الفرنسية وصور الرئيس الفرنسي.

نحن أمام سياسة خارجية فرنسية تتناقض مع المبادئ التي ألزمت فرنسا نفسها بها منذ تأسيس الجمهورية الخامسة

وبعد، بالرغم من الحديث النظري عن استمرارية العقيدة الديجولية الحاكمة للسياسة الخارجية الفرنسية، إلا أنّ الواقع يقول إنّ هناك إحلالًا ناعمًا لعناصرها الأساسية. فبينما العقيدة الديجولية تراعي في المقام الأول مصلحة فرنسا العليا التي تقوم على الاستقلال والتوازن والانفتاح من خلال نشر القيم الثقافية الفرنسية، فإنّ السياسة الخارجية الفرنسية الراهنة تتبع مبادئ تصب في اتجاه التحالف الأطلسي بكل ما سيتبعه من التزامات وارتهانات. الأمر الذي جعل فرنسا تكتفي بمواقف تتعلق بالمساعدات الإنسانية، وإدانة المقاومة، وعدم الاقتراب مما يجري من كوارث إنسانية عديدة وأعمال إبادة في غزّة. كما حال دون التقدّم بأفكار تتعلق بالملفات العالقة مثل: ملف اللاجئين، وملف الحدود، وملف الأسرى، وملف القدس.

واقع الحال، نحن أمام سياسة خارجية فرنسية تتناقض مع المبادئ التي ألزمت فرنسا نفسها بها منذ تأسيس الجمهورية الخامسة. إنها سياسة تشير إلى ما ذكرناه في مقالنا المعنون "الانحياز الأوروبي السافر لإسرائيل.. لماذا؟"، المنشور في "عروبة 22" في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بأنّ هناك ترتيبًا ما فوّضت بموجبه أوروبا - مع استثناءات - إسرائيل إدارة القضية الفلسطينية - أو للدقة تصفيتها - بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أنّ الموقف الفرنسي يسير في هذا الاتجاه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن