اللافت، أنه في الجلسة ذاتها التي تباكى فيها وزير المالية على حال المواطن المثقل بالأعباء وطالب فيها بالموافقة على اعتماد إضافي لدعم الموازنة بـ320 مليار جنيه حتى تتمكن الحكومة من امتصاص آثار الموجة التضخمية، مرر نواب الأغلبية مشروع قانون تخلت الدولة بموجبه عما تبقى من واجباتها الاجتماعية تجاه المواطن الذي رثاه معيط.
الدستور المصري ألزم الدولة بتقديم خدمات الرعاية الصحية للمواطنين ودعمها.. كما ألزمها بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة لا تقل عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي.
ورغم مرور 10 سنوات على إقرار الدستور، لم تلتزم الحكومة بهذا الإلزام، فلا هي دعمت الخدمات الصحية العامة بما يليق بالمواطن، بل أهملت المنشآت الطبية الحكومية وتركتها تتحول إلى "خرابات" بفعل غياب الرقابة وعدم كفاية مقدّمي الخدمة العلاجية.
كما أنها لم تلتزم بالنسبة التي حددها الدستور للإنفاق على الصحة (3% من الناتج المحلي)، إذ خصصت في الموازنة الجديدة نحو 200 مليار جنيه لهذا القطاع وهو ما يعادل 1.2% فقط من الناتج المحلي، رغم أنها رفعت منذ نحو 3 شهور أسعار الخدمات والإقامة والأدوية في المستشفيات الحكومية بنسب تتراوح من 100% إلى 400%، ما ضاعف الأعباء على المواطن الذي يلجأ إلى تلك المستشفيات رغم تدني الخدمة بها كالمضطر الذي دفعته الحاجة إلى أكل "لحم الميتة"، لأن البديل -المستشفيات الخاصة- لا يقدر على تحمل مصروفاته سوى الفئة القادرة وهؤلاء صاروا قلّة بعدما انحدر نحو نصف الشعب المصري إلى ما دون خط الفقر.
وبعد أن رفعت حكومته أسعار الخدمات في المستشفيات الحكومية، وقَبِل الشعب صاغرًا هذه الزيادة، خرجت علينا بقانونها الجديد الذي سيُسلّم المنشآت الطبية المُقامة بأموال الشعب إلى "مقاولي المرض"، الذين لا همّ لهم سوى جني الأرباح سريعًا.
الحكومة المصرية تسعى بكل السبل إلى التهرّب من مسؤولياتها تجاه المواطن
الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها الحكومة ونواب البرلمان الذين مرروا هذا القانون أنهم سلّموا أصول الشعب للمستثمرين ليتربحوا منها، بدلًا من تشجيعهم على بناء المزيد من المستشفيات والمنشآت الطبية، بما يدعم قاعدة المنظومة الصحية في مصر.
هذا القانون يؤكد ما بات معروفًا للكافة، وهو أنّ الحكومة المصرية تسعى بكل السبل إلى التهرّب من مسؤولياتها تجاه المواطن، كما أنها لا تفوت فرصة لتُحصّل الجبايات. وبدلًا من أن تُحسّن من حال المستشفيات وترفع عدد الأسرّة بها والذي بلغ نسبة مخيفة "1.2 سرير لكل ألف مواطن" في حين أنّ المعدل العالمي "3 لكل ألف نسمة"، وبدلًا من أن تزيد من أجور الأطباء الذين هجر نحو 62% منهم العمل بالقطاع الحكومي نتيجة ضعف رواتبهم، قررت أن تنفض أيديها وتسلّم محددوي الدخل والفئات الأكثر احتياجًا للقطاع الخاص دون أن تحدد حتى كيف ستوفر العلاج لأفراد الشعب في المستشفيات الحكومية بعد تسليمها للمستثمرين، تحت مظلة العلاج على نفقة الدولة، أو التأمين الصحي.
من المفارقات أيضًا، أنه رغم عدم إصدار اللائحة التنفيذية للقانون وحتى قبل تمريره في البرلمان، أعلنت الحكومة مطلع الشهر الجاري عن إتمام الشراكة مع القطاع الخاص لإدارة وتشغيل 5 مستشفيات حكومية كبرى داخل العاصمة، وهو ما يثبت أنّ النية كانت مبيّتة لتمرير القانون الذي أثار عاصفة من الرفض في أوساط المؤسسات المعنية وعلى رأسها نقابة الأطباء التي طالبت رئيس الجمهورية بعدم التصديق عليه.
إن أرادت السلطة أن يتكرر سيناريو ما بعد ثورة 2011 فلتمضِ في مسارها
لم يخرج الشعب المصري على الرئيس الراحل حسني مبارك قبل 13 عامًا، لأسباب سياسية فحسب، بل كان تحلّل نظامه في سنواته الأخيرة من مسؤولياته الاجتماعية تجاه المواطنين، وتسليمه مفاتيح الدولة إلى "شلة" من رجال الأعمال الذين عملوا على "تسليع الخدمات التي تقدّمها الدولة للناس" سببًا رئيسيًا في دعوة المصريين إلى إسقاط حكمه.
تخلي دولة مبارك تدريجيًا عن مسؤوليتها الاجتماعية أدى إلى حالة من الفراع، ملأته الجماعات الدينية، فأسّست سلاسل من المدارس والمستشفيات تقدّم خدمات تعليمية وعلاجية تُناسب الطبقات المتوسطة والفقيرة، ما مكّنها من اختراق قطاعات في المجتمع، وهو ما سهّل من سقوط ثمرة ثورة 25 يناير في حجر تلك الجماعات.
"كل فراغ ينشأ نتيجة تخلي الدولة عن مسؤوليتها سيجد من يملؤه".. المعادلة معروفة ومجربة، فإن أرادت السلطة أن يتكرر سيناريو ما بعد ثورة 2011 فلتمضِ في مسارها، أما إذا أرادت تجاوز ما جرى فعليها الاعتبار وتصحيح المسار قبل فوات الآوان.
(خاص "عروبة 22")