بعد العثور على الجثامين، بدا انشغال إيران بارزًا في استثمار التشييع بهدف توجيه الرسائل السياسية التي أرادت إيران تخصيبها وتحويل المحنة إلى منحة. فالاحتضان الشعبي ليس حزنًا على رئيسي وصحبه فقط، فقد ظهّرته طهران كاستفتاء سياسي وعاطفي لقوّة ورسوخ وصلابة النظام في مواجهة الحصار والعقوبات والتهديدات.
استثمار إيران للتشييع، عزّزه مشاركة رؤساء دول وحكومات، وقد حقّقت "دبلوماسية التعازي" اختراقات لافتة عربيًا وإقليميًا. وفيما حرص خامنئي على استقبال غالبية الوفود الرسمية، فقد خصّ رئيس حركة "حماس" اسماعيل هنية بامتياز تأبين رئيسي خلال تشييعه في طهران. وقد عمّد هذه الرسالة إجراء عملي تمثّل باجتماع قادة وممثلي فصائل محور المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق مع قائد "الحرس الثوري" حسين سلامي وقائد "فيلق القدس" اسماعيل قاآني وأكد بيان اللقاء على "استمرار الجهاد والنضال حتى النصر الكامل للمقاومة الفلسطينية في غزّة بمشاركة فصائل محور المقاومة".
المنافسة على موقع "المرشد الأعلى" كانت بين رئيسي ونجل خامنئي مجتبى الذي للمفارقة حاز مؤخرًا على رتبة "آية الله"
ويُعدّ خطاب هنيّة واجتماعات الفصائل أبرز الإشارات السياسية التي حرصت طهران على إبرازها لاعتبارات كثيرة أهمها تأكيد التزام إيران بثوابتها، أنّ التموضع الجيوسياسي لمروحة هذه الفصائل يشكل خطوط النفوذ وأوراق القوّة الإقليمية لإيران، ولا بد من دمج أوراق القوّة مع حجم التشييع الذي وضعه زعيم "حزب الله" في المرتبة الثالثة عالميًا، بعد جنازة قاسم سليماني، ووفق إحصاءات نصرالله "الدقيقة" فالمرتبة الأولى لم تزل لجنازة الخميني.
رغم تطمينات خامنئي حول إدارة الوضع، ومسارعة الحكومة برئاسة نائب رئيسي محمد مخبر لملء الفراغ تمهيدًا للانتخابات الرئاسية، لم تنجح المعلومات الرسمية في إنهاء الغموض الذي لفّ حادثة المروحية داخليًا وخارجيًا.
داخليًا، رغم حرص طهران على تحميل التضاريس المناخية والجغرافية المسؤولية عن الحادثة، بديهي القول إنّ جسامة الحادثة تكمن في أنّ رئيسي الذي رحل، ليس فقط رئيس الجمهورية، بل "مرشد إيران المرجّح ما بعد خامنئي"، وقد نفّذ الكثير من المعموديات السياسية والأمنية والفقهية والقضائية التي تُعدّ من شروط ومواصفات "المرشد الأعلى"، الموقع الذي تجزم مصادر عدة بأنّ المنافسة عليه كانت بين رئيسي ونجل خامنئي "مجتبى" النافذ وصانع السياسات في مكتب المرشد، والذي للمفارقة حاز مؤخرًا على رتبة "آية الله" الملزمة لاشتراطات اختيار المرشد. بهذا المعنى، فرحيل رئيسي هو ضربة لمستقبل إيران، ما يوجب التراجع عن تحميل الطقس مسؤولية "اغتياله".
يمكن لإسرائيل انطلاقًا من تواجدها المعقّد في أذربيجان إدارة وتنفيذ اغتيال رئيسي بدون بصمات
أمّا خارجيًا، فبالتوقف عند تدشين رئيسي ونظيره الأذربيجاني الهام علييف لسدّ "قيز قلعة سي" الحدودي بين البلدين، لا يمكن إغفال أنّ مباحثات قديمة جرت بين الطرفين لبناء عدة سدود فوق نهر "أرس" الحدودي بهدف مواجهة الفيضانات وتعزيز التنمية على ضفتي النهر، رغم ما شاب العلاقات من توترات متصلة بمنصّات جوية وصاروخية وتجسّسية وإلكترونية إسرائيلية في أذربيجان. وقبيل الردّ الايراني على قصف إسرائيل لقنصلية إيران في دمشق، كانت السفارة الإسرائيلية في باكو من الأهداف المرجّحة لو قرّرت طهران استهداف سفارة إسرائيلية.
تطوّر العلاقات الإيرانية الأذربيجانية، يكسر أحد أضلاع الطوق المطبق على إيران من جوارها، وهذا ما يهمّ إسرائيل المعروفة بعملياتها الغامضة أن تجهضه في حدائقها الخلفية. إذن، فشطب رئيسي "مصلحة إسرائيلية" لما يشكله من ضرب وهزّ لمستقبل إيران وإرباك اختيارها لمرشد جديد. بهذا المعنى يمكن لإسرائيل انطلاقًا من تواجدها المعقّد في أذربيجان، إدارة وتنفيذ اغتيال رئيسي بدون بصمات تلتقطها الأركان الإيرانية، وذلك عبر عملية تشويش راداري تكنولوجي يستهدف طائرته تزامنًا مع تحريك مدروس لبعض مواقع الأرصاد لإعطاء معلومات مضلّلة حول الطقس والتضاريس الجغرافية والتي اعتمدتها في العدوان على غزّة وجنوب لبنان.
وهنا، ينبغي التوقف أمام تصريحات مساعد رئيسي، غلام حسين إسماعيلي وقوله "إنّ الطقس والظروف كانت طبيعية للغاية" وتابع "بعد 45 دقيقة من التحرك في الوادي المجاور لمنجم سونغون.. شوهدت كتلة سحابية تنتشر كالطاولة في السماء، ولم يكن هناك طقس ضبابي.. وعندما تم الدخول في الكتلة السحابية، أعطى قائد سرب المروحيات الأوامر بزيادة الارتفاع إلى ما فوق السحب، وبعد 30 ثانية من الطيران.. خرجت المروحيتان الأولى والثالثة من الكتلة السحابية، ولم تظهر المروحية الثانية التي كانت تقلّ رئيسي ومرافقيه وتتوسّط السرب".
طهران تضع نصب عينيها هدفين مركزيين الأول حماية واستمرارية النظام والثاني تغيير عقيدتها النووية
توازيًا مع كلام اسماعيلي، انتشر فيديو تحدث عن حذف سجل يوم كامل للأحوال الجوية من القمر الصناعي في منطقة الحدث، ما يعزّز فرضية الاحتمال الخارجي "الإسرائيلي" من خلال "رادارات التشويش وتكنولوجيا الطقس" والتي جرى كلام مماثل حولها ربطًا بـ"زلزال تركيا وسوريا" والذي أكدت بعض النظريات أنه من فعل برنامج "هارب" الأمريكي وليس الطبيعة.
ثلاثة احتمالات لها وجاهتها النسبية وغير المتناسبة في حادثة وفاة أو اغتيال رئيسي ورفاقه. ما فعلته طهران وهي تضع نصب عينيها هدفين مركزيين الأول حماية واستمرارية النظام، والثاني تغيير عقيدتها النووية، هو حصر مسؤولية سقوط المروحية بالطقس، في ظل تحوّلات تعصف بالمنطقة انطلاقًا من غزّة وقرار محكمة العدل الدولية حول رفح، وقبلها طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية توقيف بنيامين نتنياهو ويوآاف غالانت، وبينهما اعتراف إسبانيا وإيرلندا والنروج بالدولة الفلسطينية، ترسم صورة مشهد إقليمي جديد يقتضي بالضرورة، إذا ما تقدّمت حظوظ التسويات الكبرى، تغييب وإقصاء بعض الرؤوس الحامية بعضهم بالاغتيال وبعضهم بالانتخابات، ومنهم جو بايدن الذي ستغيّبه الانتخابات المقبلة مع تنامي تمرّد طلاب الجامعات الأمريكية.
(خاص "عروبة 22")