واللافت أنّ هذا الاستثناء ممتد منذ قيام الدولة العبرية، وتعمّق مع حرب غزّة، فلا توجد دولة في الكرة الأرضية دلّلها المجتمع الدولي مثلما فعل مع إسرائيل، ومن المستحيل أن نجد دولة احتلال تضامنت معها القوى الكبرى مثلما فعلت أمريكا وأوروبا مع الدولة العبرية، ومن الصعب تبرير هذا الضعف العربي في التعامل مع دولة خارجة على القانون مثلما يحدث مع إسرائيل.
المؤكد أنّ جرائم أي دولة تكتمل حين يصبح عدد المتواطئين أكبر من عدد القادرين على مواجهتها في السر كما العلن، وتصبح الجريمة كاملة حين تمتلك غطاءً شرعيًا يقدّم لها المبررات والأعذار لكي تتحوّل جرائمها إلى عمل طبيعي، تحت شعار "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها"، وهو حق يراد به باطل لأن ما يجري لا علاقة له بالدفاع عن النفس إنما جرائم إبادة جماعية مكتملة الأركان وقتل متعمّد للمدنيين.
لقد اعتبر البعض ما تقوم به إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 وحتى عدوانها الغاشم على قطاع غزّة نوعًا من الدفاع عن النفس نتيجة قدرتها على تهيئة المسرح الدولي لقبول جرائمها، أو على الأقل عدم محاسبته لها لأنها عمّقت روايتها بأنّ حروبها العدوانية التي تشنها هي إما من أجل "الدفاع عن النفس" أو في إطار "الحرب ضد الإرهاب".
الدولة العبرية عمّقت وضعها ككيان فوق القانون والشرعية الدولية وهو أمر سيكون له تداعيات خطيرة
ولأن إسرائيل لديها حلفاء كثر في الغرب، وجماعات ضغط موالية لها في الإعلام والنخب السياسية وغيره، فهي نجحت في تحويل تلك الادعاءات إلى ما يشبه "الحقائق" كرواية معتمدة من قبل القوي المسيطرة في الغرب.
ويمكن في الحقيقة رصد سيل من قرارات مجلس الأمن التي تدين إسرائيل، ومع ذلك لم تستطع أن تزحزحها عن سياستها العدوانية وعن إحساسها الدائم بأنها دولة فوق القانون وفوق أي عقاب. فقد أصدر مجلس الأمن منذ عام 1948 وحتى الآن عشرات القرارات ضد إسرائيل كانت في غالبيتها الساحقة مجرد حبر على ورق، فقرار 57 الذي صدر في سبتمبر 1948 وأعرب فيه مجلس الأمن عن صدمته العنيفة لاغتيال وسيط الأمم المتحدة في فلسطين الكونت "فوللك برنادو" ووصف من قام بهذا العمل بالجماعة المجرمة والإرهابية (وهم من اليهود ولكنه لم يسمهم)، كما لم تحترم إسرائيل القرار الشهير 242 الصادر في 1967 والذي طالب بضرورة انسحاب قواتها من الأراضي التي احتُلت في حرب 1967، كما أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2728 في شهر مارس الماضي مطالبًا بوقف مؤقت لإطلاق النار ولم تحترمه كما هي العادة إسرائيل.
أما رأي محكمة العدل الدولية بخصوص رفض بناء الجدار العازل الصادر في 2004 فلم تهتم به إسرائيل من الأصل واستمرت في سياسة الفصل العنصري، تمامًا مثلما جرى مع ما طالبت به محكمة العدل الدولية بأن تلتزم إسرائيل بحماية المدنيين واعتبرت أنّ هناك شواهد على أنها تقوم بإبادة جماعية وهو ما استمرت إسرائيل في القيام به دون أي كوابح.
استمرار المؤسسات الدولية في انحيازها الفج لإسرائيل سيفتح الباب أمام فوضى حقيقية في النظام الدولي
من الواضح أنّ الدولة العبرية عمّقت وضعها ككيان فوق القانون والشرعية الدولية وأصبح لديها حصانة خاصة ووضع استثنائي يضعها في كفة في مقابل باقي دول العالم، وهو أمر سيكون له تداعيات خطيرة على السلم والأمن الدوليين وسيدعم بقوة نشاط التنظيمات الخارجة عن المؤسسات سواء كانت مؤسسات الدولة الوطنية أو المؤسسات الدولية Non-state actors، ولن يكون القادم هو "حزب الله" آخر يراعي بيئته المحلية، إنما سيكون أكثر تشددًا وعشوائيةً من الحوثيين الذين يشتكي العالم شرقًا وغربًا من تهديدهم التجارة العالمية.
استمرار المؤسسات الدولية في سياسة الكيل بمكيالين، وانحيازها الفج لإسرائيل قضى على مبادئ العدل والمساواة بين الشعوب. وعدم استطاعتها حتى الآن وقف حتى المذابح ولا نقول استعادة الحقوق، سيفتح الباب أمام فوضى حقيقية في النظام الدولي.
سيضعف أكثر الإيمان بالقانون والشرعية الدولية طالما أنّ بلدًا مثل جنوب أفريقيا تحركت من خلال مؤسسات الشرعية والقانون الدولي وليس لها علاقة بمحور الممانعة أو بتنظيمات ما فوق الدولة، ومع ذلك لم تنجح في وقف الإبادة الجماعية أو وقف إطلاق النار، فلنا أن نتوقع أنّ هناك ملايين الناس ستقول: ماذا أخذنا من الشرعية الدولية والقانون الدولي؟.
(خاص "عروبة 22")