وجهات نظر

"حرب الريف" بالمغرب (2/3)أول نزول برمائي للقوى الاستعمارية في التاريخ

بعد ملحمة "أنوال" التي قادها عبد الكريم الخطابي دون مساندة من بقية جهات المغرب، والتي حقق من خلالها انتصارًا كاسحًا، لم يبقَ بيد الاحتلال الإسباني من إقليم الريف سوى مدينة "مليلية" التي أحجم عن اقتحامها وتحريرها لأسباب عدة (لا تزال مدينتا مليلية وسبتة إلى اليوم تحت الحكم الإسباني).

مباشرةً بعدها عمل الخطابي على تأسيس جمهورية ناشئة بالمغرب في 13 سبتمبر (أيلول) 1921، بأجهزة ومؤسسات حديثة، مستفيدًا من خبرته كموظف سابق لدى السلطات الإسبانية، غير أنّ انتصارًا وتفوقًا للضعفاء في فترة سيطرت فيها القوى الاستعمارية على العالم، لم يكن ليسمح له بالاستمرار والتمدد.

ولذلك حذر الجنرال الفرنسي "ليوطي" المعروف بدهائه السياسي من تبعات هذا الوضع قائلًا: "إنّ عبد الكريم يمكنه أن يصبح في أحد الأيام عظيمًا وأن يرفع لواء الاستقلال الإسلامي والذي بدأ يرتفع في جبهتنا الشمالية"، وكانت الذريعة في ذلك هي "قضية تعصّب إسلامي سيؤدي إلى الجلاء الفرنسي عن المغرب والجزائر وكل شمال إفريقيا" (محمد بلقاسم).

اعتُبرت القاهرة مرحلة ثانية لاستئناف مقاومة الخطابي ضد المستعمر

نتيجة لذلك قام اتفاق بين السلطات الفرنسية والإسبانية يفيد بتنظيم جيش للهجوم على الريف، بلغ تعداده بحسب مصادر تاريخية أزيد من 300 ألف جندي إلى جانب 12 طيارًا أمريكيًا مرتزقة، في حين لم يتجاوز جيش الخطابي 60 ألف مقاوم، وشمل التدخل العسكري الطائرات والبوارج البحرية والمعدات الثقيلة المدعومة من البحرية البريطانية وكذلك الغازات السامة، واعتُبر أول نزول برمائي في التاريخ باستخدام الدبابات والطائرات، ألحق دمارًا ثقيلًا بجيش الخطابي وأهالي الريف، اضطره للاستسلام دون قيد أو شرط، وتم نفيه وكل أهله (حوالى 50 فردًا) إلى جزيرة نائية في المحيط الهادي (La Réunion) مكث فيها 20 عامًا، إلى أن تمكّن وبمناورة ذكية مستغلًا رحلة بحرية إلى مارسيليا(Marseille) من النزول بمصر، وطلب اللجوء السياسي من الملك فاروق، وحظي بعدها بمكانة مميّزة.

ومنه اعتُبرت القاهرة، مرحلة ثانية لاستئناف مقاومة الخطابي ضد المستعمر، حيث عمل على لقاء وطنيين من تونس والجزائر وليبيا (علال الفاسي، عبد الخالق الطريس، لحبيب بورقيبة، الشاذلي المكي..)، وانخرط في العمل السياسي ضمن لجنة المغرب العربي وبدون تحفظ، رغم بعض الملاحظات التي سجلها على أهداف المكتب (الدعاية ضد فرنسا)، في حين كان هدفه ينحو في اتجاه توحيد الجهود من أجل الكفاح المسلّح المشترك، وتحرير كافة الأقطار العربية بما فيها فلسطين من عدو مشترك: الاستعمار الغربي.

من أجل تطوير النضال السياسي بلجنة المغرب العربي، انطلق الخطابي من استراتيجية التوعية من داخل الأقطار العربية، مستغلًا اتصالاته وشبكاته ممن حملوا معه السلاح في حربه التحريرية بالريف، والوافدين على منزله بالقاهرة من حجاج وطلاب، كما ربط الاتصال بعدد من المسؤولين العرب وحاورهم في قضية مقاومة المستعمر، من بين هؤلاء الملك عبد العزيز آل سعود، والأمير ادريس السنوسي وغيرهما، كما كسب تأييد الجامعة العربية وبعض الزعماء من سوريا والعراق والصين والهند، وبادلوه الرسائل والحوارات.

كانت تونس والمغرب سبّاقتين إلى الكفاح المسلح، خاصة بعد حالة الغليان التي كانت تعيشها الشعوب المغاربية بعد اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد، وهو يستعد للسفر لعرض الملف التونسي على هيئة الأمم المتحدة، ونفي السلطان محمد الخامس إلى جزيرة "كورسيكا"، بينما تأخر ظهور المقاومة بالجزائر بسبب الخلافات والانقسامات الداخلية، وقد عبّر محمد بوضياف عن ذلك قائلًا: "كيف تمكنت تونس من الانتقال إلى الكفاح المسلح، والواقع نحن من كان يدعو الإخوان من تونس إلى تنظيم مثل هذا الكفاح" (محمد بلقاسم).

عاش الخطابي ومات مدافعًا عن أهمية التكتل والوحدة العربية

نظر الخطابي سلبيًا إلى الأحزاب السياسية العربية، واعتبرها أقرب إلى الانتهازية والضعف، وواصل نضاله المستميت لاستقطاب وتأطير الشباب، وتدريب المقاومين في بعض القواعد بليبيا، كما قاد مشروع الكفاح المسلح من طريق جيش التحرير الذي عمل على تأسيسه وتدريبه في كل من المغرب وتونس والجزائر، مستغلًا ظروف انشغال فرنسا في حربها بالهند الصينية، ولذلك قال عنه بوضياف: "والله يا إخواني لولا الأمير عبد الكريم الخطابي لما قامت لنا قائمة" (فتحي الذيب)، لكن تعطلت طموحاته مع قيام "بورقيبة" باتصالات مع السلطات الفرنسية يؤكد فيها قبول الدخول في مفاوضات من أجل الاستقلال، ودخول زعماء من المغرب في تفاوض مع فرنسا، أسفر عن توقيع معاهدة "إكس ليبان"، التي استدعي لها جانب فرنسي متجانس مكوّن من 5 مسؤولين عسكريين وسياسيين متمرسين، بينما من جهة المغرب استدعي لها 37 عنصرًا لا متجانسًا أيديولوجيًا وأكاديميًا بمن فيهم بعض المنحازين للمصالح الفرنسية، ولذلك عارض الخطابي الاتفاقية، وأعلن أنها "مؤامرة على مصلحة الشعب" وأنّ "القائمين عليها مُغيبون" (ورتلاني فضيل).

عند هذه العتبة انتهت جهود الخطابي من أجل الكفاح المسلح ضد المستعمر، والتي أثبت من خلالها وطوال مسيرته النضالية أنه عاش ومات مناضلًا عروبيًا ومقاومًا مسلمًا، مدافعًا عن أهمية التكتل والوحدة العربية، وقضية تحرير البلدان المغاربية، كما لم يلهه ذلك عن الدفاع عن القضية الفلسطينية وجعلها حاضرة في أجندة كفاحه ضد القوى الاستعمارية.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن