تقدير موقف

لماذا نراهن على الإنترنت في نهضتنا البديلة؟ (3/3)أهمية العرب على الصعيد الثقافي الرقمي

يتيح قسم كبير من الأعمال المحوسبة على الشبكات الإلكترونية، منتجات الثقافة الرقمية على نطاق واسع.. وهي مشاريع إبداعية متنوعة، تُعرف بـ"الصناعات الثقافية والإبداعية". تشمل كل ما يمكن إنتاجه وابتكاره وتسويقه من المواد والخدمات الثقافية السمعية والبصرية، سواء في الفنون والآداب أو الهندسة والتصميم والمعمار، والتراث، والمصنوعات التقليدية، والأفلام والوسائط المتعددة والنشر المتنوع، والألعاب والرياضات الإلكترونية...

لماذا نراهن على الإنترنت في نهضتنا البديلة؟ (3/3)
أهمية العرب على الصعيد الثقافي الرقمي

تقدّر الإيرادات العالمية في مختلف هذه المنتجات والخدمات بنحو 2.250 تريليون دولار سنويًا، وتوفّر 30 مليون وظيفة، ومن المتوقع أن تصل مساهمتها إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. كما أنّ المواقع والصفحات الإلكترونية المهتمة بالشأن الثقافي والإبداعي، أصبحت تنتشر بعشرات بل مئات الملايين على مستوى العالم.

ويمكن بمجرد أن نبحث قليلًا في محركات البحث الإلكترونية، حتى نكتشف الأعداد المهولة من مواقع الإنترنت وصفحات الشبكة العنكبوتية المتعلقة بالشأن الثقافي في شتى مجالاته وفروعه على مستوى العالم. حاليًا، ما يزيد على مليار موقع وصفحة ويب، وتزداد أعدادها يوميًا.. سواء تم إنشاؤها من قبل مؤسسات ومنظمات عامة، أو مجموعات وأفراد مهتمين بحقول معيّنة منها.. وفي خصوص عالمنا العربي، هناك أكثر من 12 مليونًا من المواقع الإلكترونية وصفحات الويب العامة والخاصة العربية، مما لها صلة بجانب أو أكثر من المشاريع والأنشطة الثقافية والإبداعية المتنوعة.

بالإمكان تعريب التكنولوجيا وفق مسارات مخصصة للاستخدام الأمثل الذي يعود على مجتمعاتنا بالنفع

إنّ الشعوب العربية أصبحت ذات انفتاح إلكتروني مهم جدًا، جماهير افتراضية تجسّد ميادين استقطابية واسعة لمختلف أنواع المنتجات الإبداعية. ونجد أنّ معظم الدول العربية، خططت لمشاريع ثقافية وإبداعية كبيرة، وضخّت أموالًا طائلة لإنشائها، سواء في المغرب العربي أو مشرقه.. كما أنّ بعض الدول العربية اقترضت أموالًا لإقامة مشاريعها الضخمة هذه...

من الملاحظ أنه في معظم هذه المشاريع ذات الأهمية البالغة كان للشريك أو للمنفّذ الأجنبي نصيبه الوافر، بل غالبًا ما يُعتمد عليه في التخطيط لها وتصميمها، فضلًا عن تنفيذها ومتابعتها. وقد يبدو الدافع الأساسي للشركاء والمنفّذين الأجانب هو الاستثمار المشروع والمقنن في الدول العربية بشروط معينة ووفق لوائح وتشريعات محددة. لكن الأمر، بطبيعته، لا يقتصر فقط على جانب تشغيل الأموال الأجنبية وإحراز سبق الدول الغربية المتقدمة في إنجاح مشاريعنا العربية الثقافية والإبداعية في بلداننا الناهضة. وإنما هناك أبعاد أخرى حاسمة في هذه المسألة التنموية بامتياز، تتعلق بالمؤثرات الثقافية الأجنبية وتوظيفها لهذه المشاريع لصالحها، في ظل ارتباطها بتطورات التكنولوجيا المستخدمة وآلياتها المتحكّم فيها من قبل الشركات الدولية الضالعة بقوة في المشاريع الثقافية العربية، وما شاكل من هذه المحاذير التي بقدر ما تبدو مخاطر هي أيضًا فرص للأخذ بأسباب التقدّم التكنولوجي، إذا ما أُحرز التخطيط الجيّد لها عربيًا، وهُيِّئت سبل التفاعل الإيجابي لخبراتنا الشابة، وإظهار المواهب الجادة في نقل المعرفة، واستيعاب ما وصلت إليه آلة الثقافة والإبداع التكنولوجي الغربية. بل وبالإمكان تطويرها وإكسابها ملامح عربية في سياق تعريب التكنولوجيا، ووفق مسارات مخصصة للاستخدام الأمثل، الذي يعود على مجتمعاتنا بالنفع، ويحفّز التفاعل الإيجابي لجماهير عربية رقمية واسعة...

هذا الأمر الهادف بدوره، يجب أن توضع له سياسات وأطر مناسبة، لتحقيق نتائج نهضوية ممنهجة من خلال مشاريعنا المتعددة في الثقافة والإبداع الرقمي؛ خاصة بتعزيز التغذية الثقافية العربية باستمرار، وضخ المنتجات الإبداعية الرقمية لجماهيرنا الشبكية. فضلًا عن ذلك، فإنّ الصناعات الثقافية والإبداعية تُعتبر المصدر الرئيسي لإنتاج القوى الناعمة، الروحية والمعنوية والأخلاقية والفكرية والعلاقات المشتركة، إلخ؛ والتي لا تقل أهمية عن القوى الصلبة، العسكرية والضغوط الاقتصادية، ونحوها...

يعتمد هذا النوع من القوى الناعمة أساسًا على توفير المبدعين الفاعلين، أي الموارد البشرية الخلّاقة، القادرة على الإنتاج والابتكار والتفكير الإبداعي المتواصل مع حضارة العصر. خصوصًا أنّ هذه الصناعات في عالم الإنترنت المتشابك، توفّر منتجات وخدمات تعزّز قيمة الإنسان المعنوية على مستوى الكوكب، وتُعلي من شأنه في مقابل التغوّل التقني والتحكّم الإلكتروني المادي.. تعمّق شعوره بكينونته وعلاقته الوجودية بالفكر والرؤى والخيال المبدع، وتثري التجارب الإنسانية في الفنون والآداب والعلوم.

ذلك ما يؤكد أهمية العرب الرقمية من المنظور الثقافي والإبداعي على مستوى الكوكب، ويظهر رحابة انتمائنا الإنساني ودورنا الحضاري في الامتداد الكوني، خصوصًا حين تمارس المجتمعات الافتراضية العربية حرية العقل والفكر، ومصداقية النفس، والتجربة الإبداعية الحقيقية، وتكتسب المهارات المختلفة، وتتلاقح ثقافيًا مع الآخر الإنساني المعاصر.

المسؤولية جماعية في حماية المنتجات الثقافية والإبداعية العربية

تبقى مسألة جوهرية في هذا الصدد. كيف نحمي منتجاتنا الثقافية والإبداعية في عالمنا الشبكي الفسيح؟ وعلى من تقع المسؤولية؟ أتقع على الحكومات والمتنفّذين، أم على الأفراد والمؤسسات الأهلية؟

في طبيعة التفاعل الكوني الافتراضي، حيث ينعدم المكان الجغرافي ويحل محله الفضاء السايبري cyber، اللامتعيّن، لا تتمثّل فيه سوى تمظهرات الذات والمجتمع/الثقافة، ويتجلى مفهوم القرية الكونية الواحدة حيث ينصهر الجميع في الجميع، ويتشاركون في المسؤولية الاجتماعية تجاه مجتمعاتهم الافتراضية والطبيعية في آن.

من هنا، تتحدد المسؤولية الجماعية في حماية المنتجات الثقافية والإبداعية العربية، كلٌّ فيما يخصه ويعنيه. وبالأخص بالتركيز على أربعة جوانب، وهي: الدعم الاجتماعي والاقتصادي للأفراد والمؤسسات؛ وتعزيز الثقة في المستثمرين والتوجهات الحكومية الشفافة؛ وحماية الملكية الفكرية؛ والاستفادة من الخبراء العرب، خاصة الذين تميّزوا في مجالاتهم، وأبدعوا.


لقراءة الجزء الأول، الجزء الثاني

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن