على مدى الأشهر الثمانية المنصرمة أتابع الحضور الإسرائيلي المكثف والطاغي في وسائل الاعلام الناطقة بالعربية؛ سواء تلك التي تبث من أوروبا وامريكا أو في العالم العربي، كذلك أتابع بصورة يومية البث التليفزيوني الإسرائيلي الناطق بالعربية والانجليزية. وعلى الرغم من أنني قرأت قبل ذلك الخطة الإسرائيلية لكسب التعاطف الدولي للأهداف الإسرائيلية من خلال منظومة احترافية من الدعاية وتزييف الحقائق، والتسميم السياسي للجمهور المستهدف؛ بصورة تفقد هذا الجمهور القدرة على التمييز بين الحقائق الواقعية وبين تزييف الحقائق لتحقيق الأهداف السياسية؛ الذي دأبت الدعاية الصهيونية التي ورثت وبصورة متقنة فلسفة الدعاية النازية التي أسسها المسؤول الأول عنها في حكومة هتلر وزير الدعاية المعروف جوزيف جوبلز. وليس غريبا أن تقتدي الدعاية الصهيونية بعدوها الأول؛ لان الانسان معتاد على تقليد أشد خصومه وأعدائه؛ على حد تعبير ابن خلدون رحمة الله عليه أن المغلوب مولع بتقليد الغالب.
مشروع إسرائيل 2009: قاموس اللغة العالمية The Israel Project’s 2009: Global Language Dictionary (الدليل الإعلامي للناطقين والإعلاميين الإسرائيليين الهادف لكسب تعاطف العالم لإسرائيل)، والذي أصدرته مؤسسة مردخاي مزراحي في نيويورك واستغرق العمل فيه مدة ست سنوات، والذي يقع في 116 صفحة مقسمة الى 18 فصلا، وأربعة ملاحق تتناول جميع القضايا التي تتعلق بوجود إسرائيل، وعلاقاتها مع فلسطين والفلسطينيين والعرب والمسلمين، وتقدم صياغات دقيقة واقتراحات محددة للإجابة عن جميع الأسئلة التي من الممكن أن تثار في كل موضوع يتعلق بسياسات إسرائيل ومواقفها وجرائمها، وكيف يمكن تبرير وتسويق وتسويغ كل ذلك للقارئ والمشاهد في دول العالم، خصوصا الولايات المتحدة الامريكية.
ما ورد في هذا المشروع الدعائي تم ويتم تطبيقه حرفيا من قبل المعلقين الإسرائيليين في جميع الفضائيات باللغات العربية والانجليزية بصورة تجعل منهم جميعا منظومة دعائية تسويقية للسياسة الإسرائيلية؛ وليسوا خبراء، أو محللين، أو إعلاميين، أو أساتذة جامعات. الجميع يعمل ضمن جوقة دعائية تمارس التسميم السياسي في أسوأ صورة، وأكثرها تضليلا بصورة تجعل من مدرسة الدعاية النازية بكل سمعتها مجرد مبتدئين في مدرسة التضليل السياسي الإسرائيلية، والجميع يكرر ما جاء في هذا المشروع حرفيا، وللأسف من المستبعد أن يكون المذيعون والمذيعات العرب الذين يديرون الحوار مع رجال ونساء الدعاية الصهيونية قد عرفوا شيئا عن هذا المشروع، وإلا لكانت هناك جولات للنقاش والحوار مختلفة عن إعطاء المجال كاملا للمعلق الصهيوني ليبث سمومه في الوعي الجمعي العربي.
فعلى سبيل المثال يرسخ هذا المشروع المبادئ الآتية في تعامل المعلقين الإسرائيليين مع وسائل الاعلام.
أولا: أن يتمسك المحاور الإسرائيلي بنقطة مرجعية تخدم قضيته، ولا يسمح لمن يحاوره أن يعود به الى فترات تاريخية سابقة، لذلك وجدنا ان الضيوف الإسرائيليين يبدأون من السابع من أكتوبر، ومهما يحاول محاورهم أن يعود بهم الى فترات سابقة، ولو بيوم واحد يكررون ما حدث في السابع من أكتوبر 2023 ويتجاهلون تماما كل ما قبله.
ثانيا: التركيز على الأفعال التي تستثير مشاعر المشاهد والمستمع الغربي خصوصا كل ما يتعلق بالنساء والأطفال، لذلك أجمع المعلقون الإسرائيليون على رواية لم تثبت صحتها تتعلق بقتل الفلسطينيين للأطفال، واغتصابهم للنساء يوم السابع من أكتوبر، وعلى الرغم من تكذيب هذه الرواية من قبل جهات دولية عديدة فإنهم ما زالوا يتمسكون بها الى اليوم.
ثالثا: التركيز على ما يثير العواطف والمشاعر وليس على الحقائق، وتكرار هذه الروايات البلاغية المثيرة مرات ومرات، حتى وان لم تكن حقيقية؛ لأن تكرار الأكاذيب يحولها الى حقائق.
رابعا: الربط الدائم بين حماس وإيران وأذرعها، والربط الدائم بين حماس والإرهاب الإسلامي بكل صوره وأشكاله، وربط كل ذلك بأحداث 11 سبتمبر 2001 وتذكير الغرب بأن الإرهاب الإسلامي يوشك ان يصل إليهم، وأن إسرائيل هي حائط الدفاع الأول عنهم.
خامسا: الربط الدائم بين إسرائيل وأمريكا سواء في القيم أو النظم والقوانين أو في التاريخ، فما تقوم به إسرائيل لا يختلف عما قامت به أمريكا للدفاع عن أمنها في اليابان والعراق وأفغانستان.
سادساً: الحفاظ على خطاب اعلامي بسيط واضح المعالم لا يغرق في المبادئ والقوانين ولا في النظريات، لان التبسيط يقود الى تحويل أشباه الحقائق الى حقائق راسخة ويستحوذ على عقول وقلوب المشاهدين والمتابعين.
هذه مجرد عينة بسيطة جدا من دليل إعلامي متقن يتناول جميع القضايا من القدس الى حق العودة، الى المستوطنات …إلخ. في جميع هذه القضايا هناك إجابات جاهزة سابقة الاعداد ما على المعلق الإسرائيلي الا أن يعيد صياغتها طبقا للحدث الذي يتناوله، وفي النهاية يتحقق الهدف وهو كسب تعاطف المتابعين ولو بصورة تدريجية، لان النصيحة الأساسية في هذا الدليل الإعلامي ان يتم تكرار الرسالة الإعلامية بأصوات متعددة وفي فترات متتالية دون كلل او ملل.
من يطالع هذا الدليل الإعلامي يخلص الى ان فتح المنافذ الإعلامية للمعلقين الإسرائيليين يحقق الأهداف الاجرامية لحكوماتهم في تبرير الجرائم والفظائع التي تنافي كل القيم والمعايير الإنسانية.
("الأهرام") المصرية