أما المفوضية الأوروبية فهي الجهاز الأقوى في الاتحاد الأوروبي، الذي يتخذ من العاصمة البلجيكية بروكسل مقرًا له، ولم يحدث على مدى تاريخ الاتحاد أن كانت المفوضية مدعوة إلى قطع خطوة في اتجاه ما، إلا وكانت تسارع إلى اتخاذ هذه الخطوة بقوة وسرعة في الاتجاه المطلوب.
وعلى كثرة المؤسسات التي تتبع الجامعة، إلا أنها لا تزال تفتقر إلى وجود جهاز يتبعها على نحو ما تتبع المفوضية الاتحاد، وعلى نحو ما تبادر المفوضية إلى ما تجد أن عليها أن تبادر إليه.
الإرادة السياسية الجماعية حاضرة لدى الأوروبيين لكنها غائبة لدى العرب
إنني أقارن في مرات كثيرة بين الاتحاد في بروكسل، وبين جامعة الدول في القاهرة، ولا أجد شيئًا يمنعها من أن تكون مع الاتحاد على أرضية واحدة من حيث الحيوية والتأثير والمبادرة. لا شيء سوى أنّ الإرادة السياسية الجماعية حاضرة هناك لدى الأوروبيين، لكنها غائبة لدى العرب هنا وغير نافذة.
قد تجد مثل هذه الإرادة متاحة على مستوى كل عاصمة عربية على حدة، ولكنك لا تجدها بين العواصم العربية كلها، وإذا أُتيحت بين عاصمتين عربيتين أو أكثر في ظرف يستدعيها ويدعوها، فإنها سرعان ما تختفي أو تتبخر إلا في حالات قليلة يمكن إحصاؤها على أصابع اليد الواحدة.. وإذا أردت مثالًا فربما يكون مجلس التعاون الخليجي نموذجًا نراه منذ نشأته مطلع ثمانينات القرن العشرين.
أعود إلى رئيسة المفوضية التي كانت قد وصلت العاصمة اللبنانية بيروت في الثاني من مايو/أيار الماضي، ولم تكن قد جاءت وحدها تزور لبنان، وإنما كانت قد حضرت ومعها رئيس قبرص يدًا بيد.
ولأنّ الأوروبيين يذهبون إلى ما يريدونه من أقصر طريق، فإنّ هذا قد تجلى في زيارة رئيسة المفوضية والرئيس القبرصي، فالمسافة بين قبرص في شمال شرق البحر المتوسط، وبين لبنان على الشاطئ الشرقي للبحر، لا تزيد على ١٨٥ كيلومترًا، وهي المسافة الأقصر بين بلدين أحدهما ينتمي إلى دول شمال المتوسط، والآخر يستقر بين دول جنوب البحر.
هذه المسافة هي الأقصر بين بلدين يقعان على البحر نفسه، وينتميان في المقابل إلى عالمين مختلفين، ولذلك فإنّ قصر المسافة كان ولا يزال مغريًا للذين يرغبون في عبور البحر متسللين من جنوبه إلى شماله، وفي الكثير من الحالات لا يكونون لبنانيين، وإنما أفريقيون أو آسيويون، وجميعهم باحثون عن عمل وعن أمل، ومستعدون لبذل كل شيء لديهم في سبيل العمل والأمل معًا، حتى ولو كان المطلوب بذله هو حياتهم نفسها.
يهاجرون بطريقة غير مشروعة، ويستغلون الثغرات التي يمكن أن ينفذوا منها، وليس قصر المسافة بين لبنان وبين الجزيرة القبرصية بوصفها بلدًا أوروبيًا إلا ثغرة من تلك الثغرات، فإذا وصلوا قبرص راحوا يتوزعون في أنحاء القارة الأوروبية ويذوبون فيها ولا يعود لهم أثر.
عضوية أي بلد في الاتحاد الأوروبي تجعل ما يمسّه يمسّ بقية الأعضاء
وقد ضاقت أوروبا بموجات الهجرة التي لا تتوقف، وضاقت أكثر بالذين يقصدون قبرص بالذات، ومنها يجدون ألف باب إلى القارة العجوز. ولأنّ قبرص عضو كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي، فإنّ الاتحاد قد احتشد وأرسل رئيسة مفوضيته، ومعها الرئيس القبرصي، ومعهما مليار يورو مساعدات، أبديا رغبتهما في تقديمها إلى الدولة اللبنانية على دفعات من هنا إلى عام ٢٠٢٧.
جاء الاثنان يعرضان على لبنان مليار يورو، ولم يكن العرض خيريًا ولا كان لوجه الله، ولكنه كان من أجل أن تبحث حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عن طريقة تتوقف بها موجات الهجرة غير الشرعية من الشواطئ اللبنانية. وقد كان من الممكن أن يأتي الرئيس القبرصي وحده، فبلاده هي التي تستقبل الموجات المهاجرة، وهي التي يعنيها الأمر، ولكن الأمر في حقيقته على غير ذلك، لا لشيء، لأنّ عضوية أي بلد في الاتحاد الأوروبي تجعل ما يمسّه يمسّ بقية الأعضاء بنص قانون نشأة الاتحاد.
كفلت المفوضية قبرص لأنّ في كفالتها مصلحة أوروبية أعم، وهذا بالضبط ما يتطلع إليه كل عربي، وهو يتابع أعمال جامعة الدول من دورة إلى دورة، فالتراكم الذي أنتج هذه الكفالة هناك على المستوى الأوروبي، مدعو إلى أن ينتج كفالة مثلها هنا على المستوى العربي، وإذا كانت بروكسل قد كفلت قبرص في مشكلتها مع الهجرة غير الشرعية، فما أكثر الدول التي تنتظر كفالة مماثلة من جامعة الدول في أرض العرب، وما أسعد اليوم الذي نجد فيه الجامعة تتقدّم لتكفل دولة عربية أو أكثر.
(خاص "عروبة 22")