على الصعيد السياسي، هناك مجهود منسّق وكبير تمارسه عدد من العواصم من أجل وقف الحرب، ونستطيع هنا أن نسمي واشنطن والقاهرة التي سيعقد فيها نهاية يونيو/حزيران الحالي مؤتمر سياسي تحت عنوان "لمّ الشمل" أي جمع القوى السياسية السودانية على اتفاق سياسي ولو على الحد الأدنى وذلك تتويجًا لمجهود مصري تبلور في استقبال د. عبد لله حمدوك رئيس تنسيقية "تقدّم" المنتخب وعقد مباحثات هامة معه، فضلًا عن إقامة مؤتمر للقوى السياسية والفصائل المسلحة "الكتلة الديمقراطية" المناوئة لتنسيقة "تقدّم" في الأسبوع الأول من مايو/أيار الماضي.
تحاول القاهرة من خلال المؤتمر المرتقب إحداث حالة من التوافق حول تحديد أطراف العملية السياسية السودانية في اليوم التالي للحرب، ومحاولة الإجابة على سؤال "من يشارك من النظام القديم.. وبأية مواصفات؟"، حيث أنّ تقديرنا أنّ الاتفاق على أطراف العملية السياسية سوف يقود بالضرورة إلى التوافق بشأن طبيعة العملية السياسية نفسها ومدى تعبيرها عن توازن القوى بين قوى النظام القديم والثائرين عليه.
مراعاة الضرورة الاستراتيجية للتوازن بين المكونات السودانية تحقق ضمانًا لاستمرار دولة السودان ذاتها
يبرز المجهود الأمريكي الراهن في أمرين؛ الأول؛ هو دعم اتجاهات وحدة المكوّن المدني الساعي في خطاباته السياسية إلى تحوّل ديمقراطي، وهو ما تم في أديس أبابا الأسبوع الماضي عبر عقد المؤتمر التأسيسي لتنسيقية "تقدّم" الذي حظي بتمثيل واسع على المستويين الداخلي والخارجي وقدّم مخرجات تصلح للحوار بشأنها فيما يتعلق بملامح اليوم التالي للحرب، وذلك بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف على مجمل المخرجات الصادرة عن مؤتمر "تقدّم".
أما الأمر الثاني: فهو التنسيق الإقليمي بين القاهرة وأديس أبابا بما يحجم من جموح إثيوبيا في التغول على التفاعلات الداخلية السودانية دون مراعاة للضرورة الاستراتيجية للتوازن بين المكونات السودانية ذاتها المنقسمة عرقيًا وثقافيًا، وذلك في أي حل سياسي يحقق ضمانًا لاستمرار دولة السودان ذاتها، ويدعم قدرتها على صناعة استقرار سياسي ممتد.
أما على الصعيد الميداني العسكري، نرصد أمرين؛ الأول: تحقيق انتصارات عسكرية للقوات المسلحة السودانية وتحوّل الحالة من الدفاع إلى الهجوم، حيث أحرز الجيش تقدّمًا على جبهة الخرطوم المثلثة التي تشمل أم درمان وبحري، ويبدو أنّ ذلك مرتبط بحصول الجيش على دعم خارجي تسليحي وفني، بحيث امتلك مسيّرات هجومية واستطلاعية مؤخرًا، كما اعتمد على فرق خاصة مدرّبة على حرب المدن بدعم فني خارجي يرجح أن يكون من أوكرانيا حسب التسريبات المتداولة.
أما على صعيد قوات "الدعم السريع" فخوض معركة على جبهة الفاشر عاصمة شمال دافور آخر معاقل الجيش في غرب السودان، يشكل تقدّمًا عسكريًا ملموسًا لم يحسم لصالحه بعد. إذا تم حسم معركة الفاشر لصالح "الدعم السريع" فهو مؤشر يعني وقوع كل إٍقليم دارفور تحت النفوذ العسكري لقوات "الدعم السريع"، وهي مساحة تعادل دولة مثل فرنسا بموارد اقتصادية هائلة أهمها الذهب والصمغ العربي، كما يعني أيضًا أنّ "الدعم السريع" قد حصل بذلك على موقف تفاوضي جيد يتيح له القدرة على المساومات في أي مفاوضات قادمة على المدى القصير أو المتوسط. وعلى المدى الطويل لا بد وأن يجد "الدعم السريع" مقاومة داخل إقليم دارفور نفسه المنقسم عرقيًا بين عرب وقبائل من أصول أفريقية لها امتدادات إقليمة، وهو الأمر الذي يؤكد أنه لا استقرار لـ"الدعم السريع" في دارفور دون تغيير النظام السياسي في جارته تشاد المنتمي لقبيلة الزغاوة الإفريقية، وهو ما يدركه محمد إدريس ديبي الرئيس التشادي.
الاتفاق على أطراف العملية السياسية وطبيعتها هي المسألة الأساسية التي سوف تقود إلى وقف الحرب
من هنا نستطيع أن نتفهّم سياسيات الاحتواء القلقة التي يمارسها ديبي حاليًا مع محمد حمدان دقلو حميدتي، وذلك من حيث السماح بمرور دعم إنساني وعسكري لقوات "الدعم السريع" عن طريق منطقة أم جرس التشادية، ربما أملًا في تحييده وضمان عدم امتداد عمليات قواته إلى تشاد.
إجمالًا؛ يبدو لنا أنّ الاتفاق على أطراف العملية السياسية السودانية وطبيعة العملية السياسية ذاتها في اليوم التالي للحرب هي المسألة الأساسية التي سوف تقود إلى وقف هذه الحرب، وهو الأمر الذي تدركه القاهرة كما تدركه الإدارات الغربية المنخرطة في التفاعلات السودانية.
(خاص "عروبة 22")