صحيح أنّ هناك خلافًا أساسيًا بين حماس ودولة الاحتلال حول هدف مراحل الهدنة الثلاث، ويتمثّل بالنسبة لحماس في أنّ هدنة المرحلة الأولى يجب أن تؤدي في مرحلتها الثالثة إلى وقف إطلاق نار حتى لو سُمّي "استقرارًا دائمًا"، أما إسرائيل فترى أنّ تظلّ الهدنة مؤقتة في مقابل الإفراج عن الأسرى وبعدها تستأنف عملياتها العسكرية.
إنّ الخلاف بين الجانبين حول هذه النقطة حقيقي، ولكنه يعكس خلافًا أكبر يتعلق بوجود إصرار عبري على عدم بقاء حماس في معادلة اليوم التالي للحرب واجتثاث وجودها السياسي والعسكري من قطاع غزّة، وهو في الحقيقة يمثّل أحد أسباب تأجيل وقف إطلاق النار.
يقينًا أنّ إسرائيل ترغب في أن تكتب كلمة "انتصار" على لوحة نهاية الحرب بصرف النظر عن حقيقتها، وتريد أن تهندس تفاصيل إدارة قطاع غزّة على ضوء هذه الكلمة، وهنا المعضلة الحقيقية التي لا زالت حتى اللحظة لم تجد حلًا.
حماس تحتاج إلى تقديم مرونة أكبر في مسألة "اليوم التالي"
إنّ هدف إسرائيل الحقيقي من أي وقف لإطلاق النار هو مجيء سلطة أو إدارة في غزّة على مقاسها وإقصاء حماس سياسيًا وعسكريًا، ولأنّ هذا الهدف صعب وربما مستحيل على الأقل من الناحية السياسية، فتبدأ إسرائيل في إطالة أمد الحرب وترفض مقترح الهدنة الذي قدّم في 6 مايو الماضي بعد أن قبلته حماس، لأنّ هدفها هو عدم وجود حماس سياسيًا في أي ترتيبات لإدارة غزّة بعد الحرب وليس فقط هزيمتها عسكريًا.
والحقيقة أنّ ما سمّاه البعض بتشدد حماس في شروط قبول الهدنة هو في الحقيقة "تشدد وجودي" ومبرر لأنه لا يمكن أن تقدّم الحركة الورقة الوحيدة التي تمتلكها وهي ورقة الأسرى والمحتجزين في مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار، وبعدها تستأنف إسرائيل عملياتها المسلحة دون أدنى رادع أو حساب وبعد أن تفقد حماس ورقتها الوحيدة.
بالمقابل، فإنّ حماس المحقة في هذا الموقف، تحتاج إلى تقديم مرونة أكبر في مسألة "اليوم التالي" تتعلق بوجودها السياسي وكمون تنظيمها العسكري الذي تعرّض لضربات كبيرة وفكك جانب كبير من قدراته، وهنا لن تستطيع حماس أن تعود لصيغة الحكم والإدارة التي كانت سائدة قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول - وهو ما تريده السلطة أيضًا - إنما يجب أن تعود لصيغة تضمن لها الوجود السياسي غير المباشر في غزّة وتتخلى عن سيطرتها أو إداراتها للقطاع وتقر أنها ستدخل في دورة جديدة تتواري فيها عن الأنظار وتتخلى عن أي سلطة وهمية.
يجب تقوية منظمة التحرير وعدم إهدار دماء الشهداء والتضحيات الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني لصالح حسابات صغيرة تتعلق بحماس وباقي الفصائل، لأنّ هذه الدماء ستكون ورقة الضغط الأساسية التي يمتلكها الجانب الفلسطيني بسبب عدم رغبة المجتمع الدولي في تكرار ما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول مرة أخرى ومشاهدة بحور جديدة من الدماء تورط المنطقة والعالم في حروب أكبر.
الانقسام الفلسطيني وضعف أداء السلطة سيمثّل كارثة حقيقية على القضية الفلسطينية إذا استمر بالطريقة نفسها والأداء نفسه حتى "اليوم التالي".
لم يعد أمام حماس إلا أن تختار مهنيين وسياسيين وقادة محليين يشكّلون همزة وصل بين الحركة ومنظمة التحرير
لن تتوقف الحرب قبل أن يتفاهم الجميع بما فيهم السلطة الفلسطينية على ألا تكون حماس حاضرة في "اليوم التالي"، وأنّ تعويض فقدان الجانب الفلسطيني ورقة التنظيم العسكري القوي في أي مفاوضات أو مشاريع تسوية لن يكون إلا بالتوافق على تيار قريب من حماس أو غير معادي لها ليكون جزءًا من أي مشروع سياسي قادم لمرحلة ما بعد الحرب.
لم يعد أمام حماس إلا أن تختار شخصيات فلسطينية أقرب لتيار "جسر" يضم مهنيين وسياسيين وقادة محليين يشكّلون همزة وصل بين الحركة ومنظمة التحرير بل وينضم بعضهم لها مما سيساهم حتمًا في توسيع قاعدة المنظمة وإصلاح ولو جانب من أدائها وتعويض غياب ورقة التنظيم المسلّح الذي يفاوض جناحه السياسي بعد انتهاء الحرب، وهو ليس متاحًا لحماس التي يرفضها العالم والنظم العربية، بل أنّ معظم الدول الغربية الكبرى تعتبر تنظيمها العسكري والسياسي من التنظيمات الإرهابية.
معضلة الهدنة لا تتعلق فقط بصعوبة الوصول إلى وقف إطلاق نار بين دولة الاحتلال وحركة حماس، إنما أيضًا أو أساسًا إلى مستقبل حماس بعد الحرب، فإسرائيل لن تكتفي بتفكيك قدراتها العسكرية إنما ستعمل على إنهاء وجودها السياسي وهو أمر مستحيل حدوثه حتى في المدى المنظور، إنما تحتاج فقط أن تنسحب من واجهة المشهد السياسي دون أن تفقد القدرة على العودة مرة أخرى إذا لم تتغيّر الظروف، أو تعود بشكل جديد إذا تغيّرت.
(خاص "عروبة 22")