وجهات نظر

انحياز فاضح ومُهين

برزت الولايات المتحدة منذ نشأة الكيان الصهيوني باعتبارها الراعي الأول له مهما اشتط السلوك الإسرائيلي، وعبر ما تجاوز ثلاثة أرباع القرن لم يحدث أن تخلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن دورها هذا، الّلهم إلا في مناسبة واحدة حين أصرّ الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور (١٩٥٧) على ضرورة انسحاب إسرائيل من سيناء وغزّة اللتين كانت قد احتلتهما بعد أن انسحب الجيش المصري ليواجه قوات بريطانيا وفرنسا المتواطئتين مع إسرائيل في عدوان ١٩٥٦ الثلاثي على مصر، وفيما عدا هذا باءت كل محاولات الاستقلال الأمريكي عن إسرائيل بالفشل.

انحياز فاضح ومُهين

حتى عندما اتُخذت قرارات فيها شبهة استقلال تم التراجع عنها لاحقًا، أو اتُخذت في الوقت الضائع ولم يكن لها أي تأثير، كما في التصويت الأمريكي في مجلس الأمن ضد الاستيطان الإسرائيلي في الأيام الأخيرة لإدارة باراك أوباما.

هكذا فإنّ الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل لا يحتاج إثباتًا، وإن كانت السياسة الأمريكية تجاه "طوفان الأقصى" وتداعياته قد فضحت التخلي الأمريكي عن كل القيم التي تزعم أنها حاميتها في العالم، والدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، وهو الدعم الذي لولاه لخسرت إسرائيل حربها الحالية، ولولا تداعيات الوحشية الإسرائيلية في غزّة والصمود الأسطوري الفلسطيني في مواجهتها على الرأي العام العالمي، وامتدادها بوضوح إلى الساحة الأمريكية في وقت حساس بالنسبة لانتخابات الرئاسة لما تحرّك بايدن وإدارته للإيحاء بأنهم يسعون لوقف الحرب، لكن الطبع يغلب التطبع.

أمر مهين لدولة عظمى أن تعمل وكيلًا لقوة يُفترض أنها صاحبة الفضل الأول في بقائها

فقد انخرطت الإدارة الأمريكية مع مصر وقطر في جهود الوساطة، وعندما وصلت هذه الجهود لنقطة حاسمة ركّز الخطاب الأمريكي على أنّ "حماس" أمامها فرصة ذهبية لإنهاء الحرب، وأنها إن لم تقبلها فسوف تكون وحدها المسؤولة عن كوارثها، فلما أعلنت "حماس" في ٦ مايو/أيار الماضي قبول الورقة المصرية التي توافق عليها الوسطاء الثلاثة وأعلنت إسرائيل أنّ مصر قد غيّرت فيما وافقت عليه، لم تنبس الإدارة الأمريكية ببنت شفة، وهي للأمانة لم تؤيد إسرائيل فيما ذهبت إليه، واكتفت بالقول بأنّ الفجوة بين مواقف الطرفين يمكن عبورها، ثم خرج علينا بايدن في٣١ مايو/أيار الماضي بمقترح قدّمه على أنه مقترح إسرائيلي!، وهو أمر مهين لدولة عظمى أن تعمل وكيلًا لقوة يُفترض أنها - أي الولايات المتحدة - صاحبة الفضل الأول في بقائها، ثم سارعت "حماس" بإعلان أنها ستتعامل بإيجابية مع المقترح بينما دخلت إسرائيل في دوامة من الانقسامات بين من يرون ضرورة قبول المقترح (الإسرائيلي) الذي أعلنه بايدن! ومن يهددون بإسقاط الحكومة لو قبل نتنياهو المقترح.

وسارعت الإدارة الأمريكية إلى تقديم المقترح إلى مجلس الأمن، وتمت الموافقة عليه من قِبَل الجميع عدا امتناع روسيا عن التصويت، وأعلنت فصائل المقاومة مجددًا أنها ستتعامل بإيجابية مع القرار، وأنها مستعدة للدخول في مفاوضات غير مباشرة لتنفيذه، ثم قدّمت ردها الرسمي الهادف لضمان تحقيق مطالبها المشروعة، سواء فيما يتعلق بالوقف الدائم لإطلاق النار، أو الانسحاب الكامل من غزّة، أو عودة النازحين لمناطقهم، أو إعادة الإعمار.

ويُلاحظ أنّ وزير الخارجية الأمريكي صرّح بأنّ بعض مطالب "حماس" مقبول، وبعضها الآخر لا يمكن قبوله، ثم عادت نغمة تحميل "حماس" المسؤولية عن إخفاق المقترح، رغم إعلانها التعامل الإيجابي معه، واستعدادها للتفاوض على أساسه بشرط عدم المساس بمطالبها المشروعة.

والمثير للسخرية أنه بينما تتعرض "حماس" لكل هذه الضغوط فإنّ حرفًا واحدًا لم يمس إسرائيل التي لم تعلن رسميًا وصراحة موافقتها على مقترحها!، وإنما تولت الإدارة الأمريكية مهمة القول بأنّ إسرائيل قد وافقت، علمًا بأنّ وزراء التطرّف فيها أكدوا أنّ الموافقة تعني نهاية الحكومة، وتُعتبر تصريحات مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة أوضح ما قيل عن موقفها، فقد ذكر في مقابلة مع شبكة "cnn" أنّ إسرائيل توافق على "الخطوط العريضة" للقرار، وأنه يخشى من تفسير "حماس" له، فلماذا يكون من حق إسرائيل وحدها وليس "حماس" أن توافق على الخطوط العريضة.

الضمانة الوحيدة هي استمرار الصمود الأسطوري للمقاومة لتحقيق المزيد من التفكك في الكيان الصهيوني

ولو كنتُ من المقاومة لأعلنتُ موافقتي الصريحة على المقترح في إطار التأكيد على ضرورة تحقيق المطالب الفلسطينية المشروعة، ولن يستطيع أحد كائنًا من كان أن ينكر عليها تمسكها بهذه المطالب، ولأسقطتُ شرط الضمانات الروسية والصينية والتركية لأنه غير عملي، والضمانة الوحيدة هي استمرار الصمود الأسطوري للمقاومة الذي نعوّل عليه لتحقيق المزيد من التفكك في الكيان الصهيوني.

أقول هذا لأنّ القبول الصريح سوف يُمَكن من الشروع في مفاوضات سنرى فيها العجب من ألوان المراوغة الإسرائيلية التي تعوّدنا عليها لعقود في كامب ديڤيد ومدريد وأوسلو، وسوف يحقق هذا للمقاومة وللقضية الفلسطينية مكسبًا دبلوماسيًا وإعلاميًا جديدًا، ويفتح الباب للمزيد من الإنجازات بإذن الله.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن