المسألة تتعلق أساسًا بالتحوّل الرقمي الذي بات حاجة ماسة لتطوير المجتمعات البشرية، والدخول في عالم معاصر يتناغم مع التقدم التكنولوجي المعلوماتي والاتصالي الذي تسارع بوتيرة كبيرة في العقود القليلة الفائتة.
ولا يمكن لهذا التحوّل أن يحدث بصورة إيجابية، سلسة، وفعالة، دون حدوث التحوّل المناسب في نظام الاقتصاد العالمي.. من اقتصاد رأس المال إلى الاقتصاد الذي تتبناه أنظمة الحواسيب المتطورة، فيما يُعرف اليوم باقتصاد المعرفة أو الاقتصاد الرقمي... وهو بصفة عامة الاقتصاد الذي يقوم على معطيات التكنولوجيا الرقمية، بدءًا من البنية التحتية التكنولوجية والعتاد والأجهزة الرقمية، وتواصلًا مع صناعة البرمجيات وتطورات الشبكات، وانتهاءً بالمنتجات والخدمات الرقمية المتلاحقة التي توزعت في الأعمال التجارية، والاستثمارية، والتنموية، والمعاملات الإلكترونية المتنوعة، وانعكاساتها المختلفة على المجتمعات.
عالم اليوم يسير بمختلف ظواهره المجتمعية في "طريق المعلومات فائق السرعة"
هذا الزخم الهائل للتطور التكنولوجي العالمي، أفرز كميات ضخمة من البيانات والمعلومات والمعارف، التي تتطلب ضرورة معالجتها والاستفادة منها في مختلف المؤسسات والمشاريع الكبيرة والصغيرة.
إنّ عالم اليوم يسير بمختلف ظواهره المجتمعية في "طريق المعلومات فائق السرعة"، المصطلح الذي يشير إلى أهمية الإنترنت الاتصالية التفاعلية، والذي انتشر في التسعينيات الماضية وسمح فيما بعد بالاستخدام التجاري الكبير، ومنحه قوته المتميزة عبر منظومته التقنية العملاقة.
اليوم، نشهده داعمًا كبيرًا، لعدد من تطبيقات التجارة الإلكترونية بشكل خاص، يوفر لها إمكانيات التواصل التفاعلي بين مستخدميها وخدماتها الرقمية المتنوعة. ومن ثم، فكلما ازدادت أعداد مستخدمي وعابري هذه الطريق الإلكترونية الموسعة، ازداد اهتمام المجتمعات البشرية بها، والاعتماد على قدراتها، وتأثير خدماتها الرقمية في عملية تطور الظاهرة الاقتصادية، بعامة.
تشير آخر إحصاءات الإنترنت من عدة مصادر، مثل الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)، والجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول (GSMA Intelligence)، وغيرهما؛ إلى أنه مع بداية شهر أبريل الماضي 2024، بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم 5.44 مليار مستخدم، ما يعادل 67.1% من إجمالي سكان العالم. أي بزيادة 90 مليون مستخدم للإنترنت، بنسبة زيادة 0.9% في غضون ثلاثة أشهر فقط عن بداية العام. كذلك، بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في العالم 5.07 مليار مستخدم، بنسبة 62.6% من إجمالي السكان العالمي، بزيادة 30 مليون مستخدم، وبنسبة زيادة 0.03%، عن 1 يناير 2024.
التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأسرع نموًا مقارنةً بباقي دول العالم
وفي بلداننا العربية، يزداد عدد مستخدمي الإنترنت وقنوات التواصل الاجتماعي الرقمية يومًا بعد يوم، وأصبح المستخدمون على اختلاف فئاتهم العمرية واهتماماتهم وقدراتهم يستفيدون من الخدمات المتوفرة، بالإضافة إلى الخدمات التي يمكن توفرها بناءً على طلب المستخدمين أنفسهم... من هنا يلاحظ الاهتمام الدولي الكبير بالبيئات الرقمية العربية، فضلًا عن اهتمام الحكومات والمنظمات والشركات العربية المختلفة بأعداد الجماهير العربية الرقمية المتصاعدة على شبكة شبكات الكوكب.
وبأخذ الاعتبار بنسبة الزيادة السنوية في عدد مستخدمي الإنترنت في البلدان العربية لفترة السنوات الخمس الماضية (بين 1% و2%) كما أشرنا في مقال سابق؛ يمكن القول إنّ مستخدمي الإنترنت في البلدان العربية، ازداد عن بداية العام بنحو أربعة ملايين مستخدم على الأقل، ونسبتهم 4.44% من الزيادة العالمية المذكورة، وعددهم حاليًا ليس بأقل من 264.16 مليون مستخدم، وغالبيتهم العظمى يستخدمون المنصات الاجتماعية.
ألا يشكّل مؤشر هذه الزيادة المليونية العربية في استخدام الإنترنت والسوشيال ميديا عاملًا رئيسًا لجذب مشاريع الاقتصادات والاستثمارات العالمية؟ إلى جانب المشاريع والأعمال العربية المتنوعة؟ والتي يفترض أن تنافس الشركات والمنتجات والخدمات الدولية في ساحاتنا الرقمية العربية... هذه المسألة تعضدها بيانات إحصائية ومؤشرات قوية، وفق ما أظهرته أحدث التقارير الدولية في هذا الشأن. فقد بينت أنّ التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هي الأسرع نموًا مقارنةً بباقي دول العالم.
ميزان مهم جدًا للقوة العربية تمثله جماهيرنا الرقمية
وبحسب تقرير لشركة "أبلو" (Uplo) المتخصصة في التجارة الإلكترونية، صدر في أواخر العام الماضي 2023؛ أنّ حجم قطاع التجارة الإلكترونية في البلدان العربية يُقدّر بين 50 و 100 مليار دولار للفترة تلك، بمعدل نمو 14% سنويًا، وترتفع النسبة إلى أكثر من 25% في بعض الدول. وأيضًا، بحسب توقعات مؤسسة البيانات والرؤى الصناعية الدولية "موردور إنتيليجنس" (Mordor Intelligence)، سوف يصل حجم هذا القطاع بعد أربع سنوات إلى أكثر من 40 مليار دولار في كلٍّ من السعودية والإمارات وحدهما.
هنا، نحن نتحدث عن ميزان مهم جدًا للقوة العربية، تمثله جماهيرنا الرقمية. هذه التي تدخل كل لحظة وحين في حسابات التحليلات الرقمية العالمية على اختلاف مجالاتها، وبخاصة في عالم التجارة والاستثمار والنمو الاقتصادي والقوة الناعمة. وهذه التي يفترض أن تُوجَّه بتقنيات ومنظورات عربية هادفة، لا أن تُترك للمؤثرات الأجنبية التقنية والفكرية والسياسية... وبخاصة توجيهها نحو وعيها بقوتها الإلكترونية الجبارة، وإدراكها كيف يمكن أن تستخدم هذه القوة التفاعلية الاقتصادية في خدمة قضاياها العادلة. ليس أقلها مقاطعة سلع البلدان والشركات المناهضة لأمّتنا، وحقنا في الحرية والديمقراطية والتقدم.
(خاص "عروبة 22")