يشغل بالي، وبال كثيرين على ما أتصور وأتمنى، حال عالمنا العربي. كان الرأي قد استقر لفترة طويلة على أن دول العالم العربي قررت منذ مرحلة مبكرة أن يجمعها نظام إقليمي خاص بها يحمي استقلالها الوليد من الذوبان في نظام أوسع ويوفر لها فرصة توليد طموحات قومية لن يوفرها انضمامها لتجمعات تتكون على أسس أخرى.
هنا يجب أن يقال إن النظام العربي ليس في أفضل حال. المثير أننا صرنا نصف حال النظام الدولي وأنظمة إقليمية معينة بهذا الوصف غير مترددين، فالسلوك الدولي منحدر الكفاءة بصفة عامة والمستقبل يبدو للكثيرين غائما ولا يحمل في طياته بشائر أمل أو تفاؤل. واقع الأمر يشير إلى أن تغيرات هامة حدثت وتحدث وأن هذه التغيرات كافية في حد ذاتها لتبرير حال انحدار النظام الدولي كما الحال في النظام الإقليمي العربي والنظام الإقليمي الإفريقي والنظام الإقليمي الأوروبي.
لاحظنا مثلا أن النظام الدولي، وهو بالفعل يبدو في حال انحدار، تعرض في العقود الأخيرة لخلل شديد في نظام توازن القوى الحاكمة في مسيرته. بدأ الخلل ثم الانحدار عندما انتقل النظام من وضع ثنائية الأقطاب إلى وضع أحادية القطب والذي اتخذ على الفور طباع الهيمنة وتبنى سلوكياتها المدمرة غالبا للقواعد المؤسسة للنظام الدولي.
ما من شك أن سلوكيات الهيمنة تقف وراء الخلل الراهن في نظام توازنات القوة والنفوذ في النظام الإقليمي الأوروبي وفي النظام الإقليمي الإفريقي والنظام الإقليمي العربي. كان نمط التحالفات أول ما تأثر بالتغير في سلوك قطب النظام الدولي، فالأطلسي انتقل من دور الحلف المحافظ على التوازن في مرحلة القطبية الثنائية إلى دور الذراع الكبرى للهيمنة، أي إلى دور الحائل دون صعود قوى أخرى ودور الحامي للمصالح الاحتكارية الغربية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي. تغيرات دفعت في حد ذاتها إلى سباقات وخلافات داخل عالم الغرب وإلى ما هو أخطر وأهم وهو إثارة شكوك حول حق الغرب في فرض منظومة قيمه وثقافته على عالم يتغير بسرعة.
نعود إلى حال انحدار النظام الإقليمي العربي. فللانحدار في الإقليم العربي أسبابه الخاصة إلى جانب انفتاحه على حماقات نظام الهيمنة.
أولا: كان من المنطقي أن يفرز التصعيد الهائل في أسعار النفط تصعيدا آخر في مكانة الدول النفطية في النظام العربي على حساب مكانة بعض الدول الفاعلة قوميا والمؤسسة للنظام.
ثانيا: تسببت الفجوات المادية في خلق أو اختلاق أسباب شتى لنشوب الخلافات على عدة مستويات داخل النظام. حدث هذا في مرحلة كان النظام الإقليمي يستعد بجهود حثيثة لسد هذه الفجوات. كان السعي لتحقيق تكامل اقتصادي وتنموي أحد هذه الجهود التي لم يقدر لها أن تكمل مسيرتها أو تكتمل في صيغة خطة لتكامل إقليمي على أسس علمية وقومية طموحة.
ثالثا: أخطأت قيادات سياسية عربية حين بنت سياساتها العربية على افتراض أن الزعامة حق موروث بحكم التاريخ أو حق مشروع بحكم الكثرة السكانية أو حق مدروس بحكم رسوخ برامج التوعية القومية أو بحكم التضحيات التي فرضتها فرص الهيمنة الإقليمية. أخطأت لسوء تقدير مدى ما حقق النظام الإقليمي العربي من تقدم في التكوين وبخاصة في المأسسة. أخطأت أيضا في حساب قدرة النظام القبلي المتين والمتمكن، كحال معظم النظم القبلية في الشرق الأوسط، على الانتقال السلس إلى مواقع هامة في السياسة الدولية والإقليمية.
رابعا: لم تسمح هيمنة الخلافات بين الحكومات العربية بإقامة نظام ثابت لتبادل المشورة في الشؤون الدولية. لم تكن الشفافية عرفا معتبرا في اجتماعات الجامعة العربية التي هي أداة التنسيق الأهم حسب ميثاقها. يبدو لي هاما للغاية عقد اجتماعات محدودة العدد لمناقشة قضية أعرف أنها حيوية لاتصالها بالجنون الإسرائيلي المدمر في طريقه عمائر غزة وفلسطين عامة وبنيتها التحتية. مثل هذه الاجتماعات لو عقدت في سنوات السبعينيات ومعظم الثمانينيات من القرن الماضي لربما عرف أكثر العرب بما يدبره أو يشغل بال بعض العرب فتفادى الجميع ما آل إليه حال كل العرب.
خامسا: أيا كانت المغريات والضغوط والابتزاز والمكافآت ففي اعتقادي أن التطبيع السابق لأوانه مع إسرائيل حقق لها ما لم يحققه عمل عسكري على أي مستوى. نعرف الآن أنه كان، مع أمور أخرى، وراء انحدار مكانة مصر في النظام الإقليمي العربي والإفريقي والدولي على حد سواء. أعرف أن دوافع الانضمام لهذا النظام الإقليمي الوليد مغرية ليس أقلها أهمية العنصر المادي كالسلاح والأمن المتبادل ضد قوى إقليمية أو عربية أخرى وتبادل الاستخبارات الحقيقية والمزيفة لخدمة أهداف أخرى كبث الوقيعة بين الدول العربية ..إلخ. أستطيع، رغم محاذير كثيرة، أن أتنبأ بأن نظاما إقليميا في الشرق الأوسط تقوده إسرائيل منفردة أو بتواطؤ أمريكي أو عربي لن يكتب له النجاح، ودليلي تسطره الآن حرب غزة وتداعياتها.
سادسا: توالي انفراط دول عربية أكثرها حديث الاستقلال، وأخشى أن يتفاقم الأمر، فتستحق هذه الفترة أن أطلق عليها بامتياز عصر الانفراطات العظمى في التاريخ العربي المعاصر. من الصومال والسودان واليمن جنوبا إلى سوريا والعراق وليبيا شمالا تنتشر بإصرار وتحد عمليات تفكيك وفرط دول عربية كان الظن أو الأمل أنها استقرت حدودا وشعوبا وقيادات متواصلة. الوضع حقا مخيف ودافع للقلق فالنظام الإقليمي متدهور وهو المكلف نظريا بالسعي لتوفير الأمان لهذه الدول في محنتها المتعددة المصادر والأسباب. الخوف والقلق لا يقتصران على ضعف الأمل في التدخل لحماية هذه الدول ومساعدتها لاستعادة وحدتها بل يمتدان إلى دول عربية أخرى تتعرض هذه الأيام لهجمات وعمليات ابتزاز واختراق خارجي وأشكال عديدة لتمرد داخلي، دول مهددة بالتفكيك.
أسمع عن جهود تبذل لبتر المغرب العربي وقطع سبل اتصاله بالمشرق، قلب النظام العربي. أسمع أيضا وأرى بعين المراقب الواعي جهودا مستمرة تبذل لتوسيع الفجوة بين إيران ودول الخليج ودول عربية أخرى. في الوقت نفسه وفي ظل كثير من السخرية تتواصل المساعي الأمريكية لتعيين إسرائيل حامية لكل هذه الدول، إسرائيل الدولة التي عجزت على امتداد حوالى تسعة شهور عن وقف تمرد حركة مقاومة فلسطينية في جزء من دولة فلسطين المحتلة. أسمع أيضا عن توقف تنفيذ مشاريع التكامل الاقتصادي بين الدول العربية.
لن أكتئب فمعلوماتي تفيد أن هناك في موقع هام في العالم العربي من يبحث عن معنى جديد لمفهوم العروبة، تبني هذا المعنى يفيد في التمهيد لصحوة عربية جديدة.
("الشروق") المصرية