بعد طول تعثر في التوصل لاتفاق موحد بشأن الحرب الدائرة في غزة, تم أخيرا التصويت في مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي لوقف إطلاق النار, بموافقة 14 من أعضائه وامتناع روسيا عن التصويت, ولا شك في أنه يكتسب أهمية خاصة, بالنظر إلى الظروف الصعبة والمرحلة الحرجة التي يمر بها القطاع بعد ثمانية أشهر من الدمار والمعاناة الانسانية, أضف إلى ذلك أنه أتى من الولايات المتحدة المتحيزة أصلا لإسرائيل والراعي الرئيسي لكل المفاوضات المتعلقة بالنزاع، وبالتالي فهي الأقدر على ممارسة ضغوط على جميع الاطراف من أجل وضعه قيد التنفيذ، حيث سبقه ثلاثة قرارات قدمتها بلدان مختلفة إلا أنها لم تجد طريقها للتطبيق الفعلي.
وينص القرار في مرحلته الأولى على وقف كامل لإطلاق النار لمدة ستة أسابيع، يرافقه انسحاب إسرائيل من المناطق المأهولة بالسكان في غزة، وإطلاق سراح عدد من الرهائن الإسرائيليين والأمريكيين مقابل الافراج عن المئات من الأسرى الفلسطينيين بسجون دولة الاحتلال، كما سيسمح بعودة المدنيين إلى ديارهم في كل مناطق غزة لا يستثنى منها شمالها الذين أجبروا على الخروج منه، ورفع حجم المساعدات الانسانية إلى 660 شاحنة يوميا، على أن يقوم المجتمع الدولي أيضا بإرسال الآلاف من الملاجئ المؤقتة بشكل فوري. وخلال هذه المرحلة سيتفاوض الجانبان (الاسرائيلي والفلسطيني) على الترتيبات اللازمة للوصول إلى المرحلة الثانية، وفي حال استغرقت المفاوضات وقتا أطول من تلك المدة المحددة، سيتواصل وقف اطلاق النار طالما المحادثات مستمرة، لكن بشرط أن تفي حماس بالتزاماتها، ثم تجيء المرحلة الثالثة والأخيرة والتي ستبدأ فيها خطة إعمار كبرى لقطاع غزة. لكن روسيا من جانبها، وهي على خلاف دائم مع واشنطن، كان لها رأي مغاير, ووجهت انتقادات للقرار ونعتت الصفقة بـ«الغامضة» حيث تظل تفاصيلها خلف الكواليس، حسب ما أشار مندوبها الدائم، فضلا أنه يفتقد إلى آلية واضحة لتنفيذه، في تلميح ضمني بأنه خلا من الاشارة إلى البند السابع بميثاق الأمم المتحدة الذي يخول لمجلس الأمن استخدام التدابير العسكرية أو غير العسكرية مثل فرض الحصار أو إقرار عقوبات اقتصادية وغيرهما لجعل قراراته ملزمة، فقط اكتفى بالبند السادس الذي يدعو الأطراف المتنازعة لتسوية النزاع بالمفاوضات أو وسائل التحقيق والتحكيم أو اللجوء إلى الوكالات والمنظمات الاقليمية أو أي وسيلة سلمية أخرى للمساعدة في حل المنازعات، وعلى الرغم من هذه الانتقادات، لم تستخدم موسكو حق النقض، وقد يكون السبب هو عدم امتلاكها رؤية أو مقترحا بديلا للمشروع الأمريكي.
أما عن مواقف الطرفين المباشرين وهي الأهم, وهما من دعتهما واشنطن إلى تطبيق بنود القرار بالكامل «دون تأخير وبلا شروط» فقد تحفظت عليه إسرائيل، وفق ما أوردته صحيفة يديعوت أحرونوت، بذريعة أنه يحد من حريتها في العمل على استكمال خططها العسكرية، وإن لم ترفضه صراحة، وفي المقابل أبدت حماس موافقة عليه فور صدوره، ولكنها طالبت بأن تحصل على ضمانات واضحة ومكتوبة من الجانب الأمريكي تكفل الوقف الدئم لإطلاق النار والانسحاب الاسرائيلي من غزة, وهو أمر من غير المتصور أن تستجيب له واشنطن، بالاضافة إلى إعرابها عن رغبتها في أن تكون كل من روسيا والصين، المنافستين للولايات المتحدة، جزءا أساسيا من أي عملية للتفاوض مع إسرائيل والتي ستكون بالطبع غير مباشرة.
لا جدال في أن إدارة بايدن الديمقراطية تسعى منذ فترة من أجل إنجاح مشروعها لانهاء الحرب وتجنب توسيع دائرتها إقليميا، وقد سبق أن طرحته في مايو الماضي إلا أنه لم يُقر واضطرت لادخال تعديلات عليه، حتى تُرجم في القرار الأخير.
لكن وعلى الرغم من أنه صيغ بالتنسيق مع الدولة العبرية، فإن ذلك لا يعني تبني الأخيرة المطلق له، إذ ما زال رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو يصر على ترديد مقولته بضرورة مواصلة الحرب حتى القضاء على حماس، كما أن الانقسامات الداخلية فيها تمثل عقبة أخرى أمام الجهود الدبلوماسية الأمريكية، وهو ما دعا بايدن لتخصيص الجانب الأكبر من خطابه الأخير لمخاطبة القادة الاسرائيليين لتليين مواقفهم، وقال نصا «أعرف أن بعض الأطراف في الائتلاف الحكومي هناك لن تتفق مع هذه الخطة, بل وتدعو لاستمرار القتال لأجل غير مسمى، بل وتريد احتلال غزة، وتعتبر قضية الرهائن ليست أولوية بالنسبة إليها». في هذا السياق حرص الرئيس الأمريكي على طمأنة الشعب الاسرائيلي وحثه على القبول بالعرض الذي قدمته إدارته، على أساس أنه لا يحمل أي مخاطر على أمنه، بعد أن نجح الجيش الإسرائيلي في تدمير معظم قدرات حماس بحيث لم تعد قادرة على تكرار هجوم السابع من أكتوبر، واللافت أنه أضاف بأن «إسرائيل كانت محقة تماما في هذا الهدف»، ما يعكس الرؤية الأمريكية السلبية عموما تجاه الحركة، وهو نفس ما ردده وزير خارجيته في أثناء زيارته للمنطقة الأسبوعين الماضيين، حين أشار إلى أن «حماس هي الطرف الوحيد الذي يعترض سبيل وقف إطلاق النار».
إلا أن ذلك لا ينفي في المقابل تذمر البيت الأبيض من تعنت الحكومة الاسرائيلية، والذي عبر عنه في أكثر من مناسبة، ولأن المعادلة الداخلية الأمريكية لا تسمح بالمساس بالعلاقات الاستراتيجية مع تل أبيب، فهو يلجأ لأسلوب الترغيب، والذى عبر عنه بايدن بأن الموافقة على الصفقة ستُمكن اسرائيل من الاندماج في المنطقة واستكمال اتفاقيات السلام للوصول إلى اتفاق مع السعودية. مع الأخذ في الاعتبار أن اسرائيل شرعت فعليا في الإعداد لمواجهة شاملة مع حزب الله وهذا ما أكدته وول ستريت جورنال ووسائل إعلام اسرائيلية، وفي هذا الاطار تأتي الزيارة المرتقبة لوزير دفاعها يوآف جلانت لواشنطن لبحث صفقات سلاح جديدة استعدادا للحرب المحتملة في جنوب لبنان.
وفي ظل هذا التصعيد , فإن قرار مجلس الأمن يحمل نقاطا إيجابية يمكن البناء عليها تجنبا لتوسيع دائرة النزاع.
("الأهرام") المصرية